الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: مُلَاحَظَةُ نُورِ الْكَشْفِ. وَهِيَ تُسْبِلُ لِبَاسَ التَّوَلِّي وَتُذِيقُ طَعْمَ التَّجَلِّي. وَتَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي. هَذِهِ الدَّرَجَةُ: أَتَمُّ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ تِلْكَ الدَّرَجَةَ: مُلَاحَظَةُ مَا سَبَقَ بِنُورِ الْعِلْمِ. وَهَذِهِ مُلَاحَظَةُ كَشْفٍ بِحَالٍ قَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى شَغَلَهُ عَنِ الْخَلْقِ. فَأَسْبَلَ عَلَيْهِ لِبَاسَ تَوَلِّيهِ اللَّهَ وَحْدَهُ وَتَوَلِّيهِ عَمَّا سِوَاهُ. وَنُورُ الْكَشْفِ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَبْدَأُ الشُّهُودِ. وَهُوَ نُورُ تَجَلِّي مَعَانِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى عَلَى الْقَلْبِ. فَتُضِيءُ بِهِ ظُلْمَةُ الْقَلْبِ. وَيَرْتَفِعُ بِهِ حِجَابُ الْكَشْفِ. وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا. فَإِنَّكَ تَجِدُ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ: تَجَلِّي الذَّاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الصِّفَاتِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا، وَتَجَلِّي الْأَفْعَالِ يَقْتَضِي كَذَا وَكَذَا. وَالْقَوْمُ عِنَايَتُهُمْ بِالْأَلْفَاظِ. فَيَتَوَهَّمُ الْمُتَوَهِّمُ: أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ تَجَلِّي حَقِيقَةَ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ لِلْعِيَانِ، فَيَقَعُ مَنْ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الشَّطَحَاتِ وَالطَّامَّاتِ. وَالصَّادِقُونَ الْعَارِفُونَ بَرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُشِيرُونَ إِلَى كَمَالِ الْمَعْرِفَةِ، وَارْتِفَاعِ حُجُبِ الْغَفْلَةِ وَالشَّكِّ وَالْإِعْرَاضِ، وَاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْقَلْبِ بِمَحْوِ شُهُودِ السِّوَى بِالْكُلِّيَّةِ. فَلَا يَشْهَدُ الْقَلْبُ سِوَى مَعْرُوفِهِ. وَيُنَظِّرُونَ هَذَا بِطُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنَّهَا إِذَا طَلَعَتِ انْطَمَسَ نُورُ الْكَوَاكِبِ. وَلَمْ تُعْدَمِ الْكَوَاكِبُ. وَإِنَّمَا غَطَّى عَلَيْهَا نُورُ الشَّمْسِ. فَلَمْ يَظْهَرْ لَهَا وُجُودٌ. وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ مَوْجُودَةٌ فِي أَمَاكِنِهَا. وَهَكَذَا نُورُ الْمَعْرِفَةِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْقَلْبِ، قَوِيَ سُلْطَانُهَا، وَزَالَتِ الْمَوَانِعُ وَالْحُجُبِ عَنِ الْقَلْبِ. وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إِلَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ. وَلَا يَعْتَقِدُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَةَ وَالْأَوْصَافَ: بَرَزَتْ وَتَجَلَّتْ لِلْعَبْدِ- كَمَا تَجَلَّى سُبْحَانَهُ لِلطُّورِ، وَكَمَا يَتَجَلَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلنَّاسِ- إِلَّا غَالِطٌ فَاقِدٌ لِلْعِلْمِ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ مِنَ التَّجَاوُزِ مِنْ نُورِ الْعِبَادَاتِ وَالرِّيَاضَةِ وَالذِّكْرِ إِلَى نُورِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ. فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الصَّحِيحَةَ، وَالرِّيَاضَةَ الشَّرْعِيَّةَ، وَالذِّكْرَ الْمُتَوَاطِئَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ: يُوجِبُ نُورًا عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ. وَرُبَّمَا قَوِيَ ذَلِكَ النُّورُ حَتَّى يُشَاهَدَ بِالْعِيَانِ. فَيَظُنُّهُ فِيهِ ضَعِيفُ الْعِلْمِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَمُقْتَضَيَاتِ الْعُبُودِيَّةِ. فَيَظُنُّهُ نُورَ الذَّاتِ، وَهَيْهَاتَ! ثُمَّ هَيْهَاتَ! نُورُ الذَّاتِ لَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كَشَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنْهُ لَتَدَكْدَكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ، كَمَا تَدَكْدَكَ الْجَبَلُ وَسَاخَ لَمَّا ظَهَرَ لَهُ الْقَدْرُ الْيَسِيرُ مِنَ التَّجَلِّي. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَنَامُ. وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ. حِجَابُهُ النُّورُ. لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ. فَالْإِسْلَامُ لَهُ نُورٌ. وَالْإِيمَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُ. وَالْإِحْسَانُ لَهُ نُورٌ أَقْوَى مِنْهُمَا. فَإِذَا اجْتَمَعَ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَزَالَتِ الْحُجُبُ الشَّاغِلَةُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: امْتَلَأَ الْقَلْبُ وَالْجَوَارِحُ بِذَلِكَ النُّورِ. لَا بِالنُّورِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ تَعَالَى. فَإِنَّ صِفَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ لَا تَحِلُّ فِيهِ. فَالْخَالِقُ سُبْحَانَهُ بَائِنٌ عَنْ الْمَخْلُوقِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ. فَلَا اتِّحَادَ، وَلَا حُلُولَ، وَلَا مُمَازَجَةَ. تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ عُلُوًّا كَبِيرًا. قَوْلُهُ " وَيَعْصِمُ مِنْ عُوَارِ التَّسَلِّي " الْعُوَارُ: الْعَيْبُ. وَالتَّسَلِّي السَّلْوَةُ عَنِ الْمَحْبُوبِ الَّذِي لَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ وَلَا نَعِيمَ إِلَّا بِحُبِّهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَالْأُنْسِ بِذِكْرِهِ. فَإِنَّ سُلُوَّ الْقَلْبِ وَغَفْلَتَهُ عَنْ ذِكْرِهِ: هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ. فَهَذِهِ الْمُلَاحَظَةُ إِذَا صَدَقَتْ عَصَمَتْ صَاحِبَهَا عَنْ عَيْبِ سَلْوَتِهِ عَنْ مَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ. فَإِنَّهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ مُسْتَغْرِقٌ فِي شُهُودِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَى قَلْبِهِ نُورُ الْإِيمَانِ بِهَا وَمَعْرِفَتُهَا، وَدَوَامُ ذِكْرِهَا. وَمَعَ هَذَا: فَبَابُ السَّلْوَةِ عَلَيْهِ مَسْدُودٌ، وَطَرِيقُهَا عَلَيْهِ مَقْطُوعٌ. وَالْمُحِبُّ يُمْكِنُهُ التَّسَلِّي قَبْلَ أَنْ يُشَاهِدَ جَمَالَ مَحْبُوبِهِ، وَيَسْتَغْرِقَ فِي شُهُودِ كَمَالِهِ، وَيَغِيبَ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ كَانَ كَمَا قِيلَ: مَرَّتْ بِأَرْجَاءِ الْخَيَالِ طُيُوفُهُ *** فَبَكَتْ عَلَى رَسْمِ السُّلُوِّ الدَّارِسِ
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَهِيَ تُوقِظُ لِاسْتِهَانَةِ الْمُجَاهَدَاتِ. وَتُخَلِّصُ مِنْ رُعُونَةِ الْمُعَارَضَاتِ. وَتُفِيدُ مُطَالَعَةَ الْبِدَايَاتِ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ عِنْدَهُ: أَرْفَعُ مِمَّا قَبْلَهَا. فَإِنَّ مَا قَبْلَهَا- مُطَالَعَةُ كَشْفِ الْأَنْوَارِ- تُشِيرُ إِلَى نَوْعِ كَسْبٍ وَاخْتِيَارٍ. وَهَذِهِ مُطَالَعَةٌ تَجْذِبُ الْقَلْبَ مِنَ التَّفَرُّقِ فِي أَوْدِيَةِ الْإِرَادَاتِ، وَشِعَابِ الْأَحْوَالِ وَالْمَقَامَاتِ، إِلَى مَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مِنْ عَيْنِ الْجَمْعِ، النَّاظِرِ إِلَى الْوَاحِدِ الْفَرْدِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، الْآخِرِ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، الظَّاهِرِ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، الْبَاطِنِ الَّذِي لَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ. سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِأَوَّلِيَّتِهِ. وَبَقِيَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ بِآخِرِيَّتِهِ. وَعَلَا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ بِظُهُورِهِ. وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ بِبُطُونِهِ. فَالنَّظَرُ بِهَذِهِ الْعَيْنِ: يُوقِظُ قَلْبَهُ لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ السَّالِكَ فِي مَبْدَأِ أَمْرِهِ لَهُ شِرَّةٌ، وَفِي طَلَبِهِ حِدَّةٌ، تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ، وَتَرْمِيهِ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ طَلَبِهِ. فَفُتُورُهُ نَائِمٌ، وَاجْتِهَادُهُ يَقْظَانُ. فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ: اسْتَهَانَ بِالْمُجَاهَدَاتِ الشَّاقَّةِ فِي جَنْبِ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ مَقَامِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ. وَاسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّهَا. فَإِنَّ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الْجَمْعِ عَلَى اللَّهِ: أَنْفَعُ وَأَجْدَى عَلَيْهِ مِنَ الْقِيَامِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْمُجَاهَدَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، الَّتِي لَمْ يَفْرِضْهَا اللَّهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا جَمَعَ هَمَّهُ وَقَلْبَهُ كُلَّهُ عَلَى اللَّهِ، وَزَالَ كُلُّ مُفَرِّقٍ وَمُشَتِّتٍ: كَانَتْ هَذِهِ هِيَ سَاعَاتُ عُمْرِهِ فِي الْحَقِيقَةِ. فَتَعَوَّضَ بِهَا عَمَّا كَانَ يُقَاسِيهِ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ وَتَعَبِهَا. وَهَذَا مَوْضِعٌ غَلِطَ فِيهِ طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاسِ. إِحْدَاهُمَا: غَلَتْ فِيهِ، حَتَّى قَدَّمَتْهُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ. وَرَأَتْ نُزُولَهَا عَنْهُ إِلَى الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ انْحِطَاطًا مِنَ الْأَعْلَى إِلَى الْأَدْنَى. حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ذَاقَ ذَلِكَ: قُمْ إِلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: يُطَالَبُ بِالْأَوْرَادِ مَنْ كَانَ غَافِلًا *** فَكَيْفَ بِقَلْبٍ كُلُّ أَوْقَاتِهِ وِرْدُ وَقَالَ آخَرُ: لَا تُسَيِّبْ وَارِدَكَ لِوِرْدِكَ. وَهَؤُلَاءِ بَيْنَ كَافِرٍ وَنَاقِصٍ. فَمَنْ لَمْ يَرَ الْقِيَامَ بِالْفَرَائِضِ- إِذَا حَصَلَتْ لَهُ الْجَمْعِيَّةُ- فَهُوَ كَافِرٌ، مُنْسَلِخٌ مِنَ الدِّينِ. وَمِنْ عَطَّلَ لَهَا مَصْلَحَةً رَاجِحَةً- كَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَالْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْجِهَادِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالنَّفْعِ الْعَظِيمِ الْمُتَعَدِّي- فَهُوَ نَاقِصٌ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَا تَعْبَأُ بِالْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تَعْمَلُ عَلَيْهَا. وَلَعَلَّهَا لَا تَدْرِي مَا مُسَمَّاهَا وَلَا حَقِيقَتُهَا. وَطَرِيقَةُ الْأَقْوِيَاءِ، أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ: الْقِيَامُ بِالْجَمْعِيَّةِ فِي التَّفْرِقَةِ مَا أَمْكَنَ. فَيَقُومُ أَحَدُهُمْ بِالْعِبَادَاتِ، وَنَفْعِ الْخَلْقِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، مَعَ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَإِنْ ضَعُفَ عَنِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ، وَضَاقَ عَنْ ذَلِكَ: قَامَ بِالْفَرَائِضِ. وَنَزَلَ عَنِ الْجَمْعِيَّةِ. وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، إِذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهَا إِلَّا بِتَعْطِيلِ الْفَرْضِ. فَإِنَّ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ مِنْهُ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ. وَنَفْسَهُ تُرِيدُ الْجَمْعِيَّةَ، لِمَا فِيهَا مِنَ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَلَمِ التَّفْرِقَةِ وَشَعْثِهَا. فَالْفَرَائِضُ حَقُّ رَبِّهِ. وَالْجَمْعِيَّةُ حَظُّهُ هُوَ. فَالْعُبُودِيَّةُ الصَّحِيحَةُ: تُوجِبُ عَلَيْهِ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَإِذَا جَاءَ إِلَى النَّوَافِلِ، وَتَعَارَضَ عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ الْجَمْعِيَّةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَجِّحُ النَّوَافِلَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا فِي وَقْتٍ وَهَذَا فِي وَقْتٍ. وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ تِلْكَ النَّوَافِلَ إِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهَا أَرْجَحَ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ، وَلَا تُعَوِّضُهُ الْجَمْعِيَّةُ عَنْهَا: اشْتَغَلَ بِهَا، وَلَوْ فَاتَتِ الْجَمْعِيَّةُ، كَالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيمِ الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَقِيَامِ وَسَطِ اللَّيْلِ، وَالذِّكْرِ أَوَّلَ اللَّيْلِ وَآخِرَهُ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ. وَنَفْلِ الْجِهَادِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُضْطَرِّ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَهَذَا كُلُّهُ مَصْلَحَتُهُ أَرْجَحُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْجَمْعِيَّةِ. وَإِنْ كَانَتْ مَصْلَحَتُهُ دُونَ الْجَمْعِيَّةِ- كَصَلَاةِ الضُّحَى، وَزِيَارَةِ الْإِخْوَانِ، وَالْغُسْلِ لِحُضُورِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى، وَإِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ، وَزِيَارَةِ الْقُدْسِ، وَضِيَافَةِ الْإِخْوَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ- فَهَذَا فِيهِ تَفْصِيلٌ. فَإِنْ قَوِيَتْ جَمْعِيَّتُهُ فَظَهَرَ تَأْثِيرُهَا فِيهِ: فَهِيَ أَوْلَى لَهُ، وَأَنْفَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَإِنْ ضَعُفَتِ الْجَمْعِيَّةُ، وَقَوِيَ إِخْلَاصُهُ فِي هَذِهِ الْأَعْمَالِ: فَهِيَ أَنْفَعُ لَهُ، وَأَفْضَلُ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ. وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: إِيثَارُ أَحَبِّ الْأَمْرَيْنِ إِلَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِنَفْعِ الْعَمَلِ وَثَمَرَتِهِ، مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَتَرَتُّبِ الْغَايَاتِ الْحَمِيدَةِ عَلَيْهِ، وَكَثْرَةِ مُوَاظَبَةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِ، وَشِدَّةِ اعْتِنَائِهِ بِهِ، وَكَثْرَةِ الْوَصِيَّةِ بِهِ، وَإِخْبَارِهِ: أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فَاعِلَهُ. وَيُبَاهِي بِهِ الْمَلَائِكَةَ. وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَنُكْتَةُ الْمَسْأَلَةِ وَحَرْفُهَا: أَنَّ الصَّادِقَ فِي طَلَبِهِ يُؤْثِرُ مَرْضَاةَ رَبِّهِ عَلَى حَظِّهِ. فَإِنْ كَانَ رِضَا اللَّهِ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ، وَحَظُّهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ: خَلَّى الْجَمْعِيَّةَ تَذْهَبُ. وَقَامَ بِمَا فِيهِ رِضَا اللَّهِ. وَمَتَّى عَلِمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ: أَنَّ تَرَدُّدَهُ وَتَوَقُّفَهُ- لِيَعْلَمَ: أَيَّ الْأَمْرَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَرْضَى لَهُ- أَنْشَأَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ التَّوَقُّفِ وَالتَّرَدُّدِ حَالَةً شَرِيفَةً فَاضِلَةً، حَتَّى لَوْ قَدَّمَ الْمَفْضُولَ- لِظَنِّهِ أَنَّهُ الْأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ-: رَدَّتْ تِلْكَ النِّيَّةُ وَالْإِرَادَةُ عَلَيْهِ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ وَفَاتَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ الْآخَرِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَفِي كَلَامِهِ مَعْنًى آخَرَ: وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْمُجَاهَدَاتِ مُسَافِرٌ بِعَزْمِهِ وَهِمَّتِهِ إِلَى اللَّهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ- الَّتِي شُهُودُ عَيْنِهَا: هُوَ انْكِشَافُ حَقِيقَتِهَا لِلْقَلْبِ- كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ جَادٍّ فِي سَيْرِهِ، وَقَدْ وَصَلَ إِلَى الْمَنْزِلِ. وَقَرَّتْ عَيْنُهُ بِالْوُصُولِ. وَسَكَنَتْ نَفْسُهُ، كَمَا قِيلَ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى *** كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ: مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ الْمُوَحِّدِ. وَالزِّنْدِيقِ الْمُلْحِدِ. فَالزِّنْدِيقُ يَقُولُ: الِاشْتِغَالُ بِالسَّيْرِ بَعْدَ الْوُصُولِ عَيْبٌ. لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَالْوُصُولُ عِنْدَهُ: هُوَ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ. فَإِذَا اسْتَغْرَقَ فِي هَذَا الشُّهُودِ، وَفَنِيَ بِهِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ: ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ. وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ الْغَايَةُ. فَرَأَى قِيَامَهُ بِهَا أَوْلَى بِهِ. وَأَنْفَعَ لَهُ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ. فَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ عِنْدَهُ: وَسِيلَةٌ لِغَايَةٍ، وَقَدْ حَصَلَتْ. فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالْوَسِيلَةِ بَعْدَهَا، كَمَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: إِنَّ الْعِلْمَ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ. فَإِذَا اشْتَغَلْتَ بِالْغَايَةِ لَمْ تَحْتَجْ إِلَى الْوَسِيلَةِ. وَقَدِ اشْتَدَّ نَكِيرُ السَّلَفِ- مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الشُّيُوخِ- عَلَى هَذِهِ الْفِرْقَةِ. وَحَذَّرُوا مِنْهُمْ. وَجَعَلُوا أَهْلَ الْكَبَائِرِ وَأَصْحَابَ الشَّهَوَاتِ خَيْرًا مِنْهُمْ، وَأَرْجَى عَاقِبَةً. وَأَمَّا الصِّدِّيقُ الْمُوَحِّدُ: فَإِذَا وَصَلَ إِلَى هُنَاكَ، صَارَتْ أَعْمَالُهُ الْقَلْبِيَّةُ وَالرُّوحِيَّةُ أَعْظَمَ مِنْ أَعْمَالِهِ الْبَدَنِيَّةِ، وَلَمْ يُسْقِطْ مِنْ أَعْمَالِهِ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُ اسْتَرَاحَ مِنْ كَدِّ الْمُجَاهَدَاتِ بِمُلَاحَظَةِ عَيْنِ الْجَمْعِ. وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مُسَافِرٍ طَلَبَ مَلِكًا عَظِيمًا رَحِيمًا جَوَادًا، فَجَدَّ فِي السَّفَرِ إِلَيْهِ، خَشْيَةَ أَنْ يَقْتَطِعَ دُونَهُ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهِ وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ: بَقِيَ لَهُ سَيْرٌ آخَرُ فِي مَرْضَاتِهِ وَمَحَابِّهِ. فَالْأَوَّلُ: كَانَ سَيْرًا إِلَيْهِ. وَهَذَا سَيْرٌ فِي مَحَابِّهِ وَمَرَاضِيهِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ وَأَمْثَالِهِ فِي ذَلِكَ. وَبَعْدُ، فَالْعَبْدُ- وَإِنْ لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا- فَهُوَ سَائِرٌ إِلَى اللَّهِ وَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي قَيْدِ الْحَيَاةِ. وَلَا يَصِلُ الْعَبْدُ مَا دَامَ حَيًّا إِلَى اللَّهِ وُصُولًا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنِ السَّيْرِ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ، وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَالِ. بَلْ يَشْتَدُّ سَيْرُهُ إِلَى اللَّهِ كُلَّمَا زَادَتْ مُلَاحَظَتُهُ لِتَوْحِيدِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. وَلِهَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمَ الْخَلْقِ اجْتِهَادًا، وَقِيَامًا بِالْأَعْمَالِ، وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَا كَانَ اجْتِهَادًا وَقِيَامًا بِوَظَائِفِ الْعُبُودِيَّةِ. فَلَوْ أَتَى الْعَبْدُ بِأَعْمَالِ الثَّقَلَيْنِ جَمِيعِهَا لَمْ تُفَارِقْهُ حَقِيقَةُ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَكَانَ بَعْدُ فِي طَرِيقِ الطَّلَبِ وَالْإِرَادَةِ. وَتَقْسِيمُ السَّائِرِينَ إِلَى اللَّهِ: إِلَى طَالِبٍ، وَسَائِرٍ، وَوَاصِلٍ. أَوْ إِلَى مُرِيدٍ، وَمُرَادٍ: تَقْسِيمٌ فِيهِ مُسَاهَلَةٌ لَا تَقْسِيمٌ حَقِيقِيٌّ، فَإِنَّ الطَّلَبَ وَالسُّلُوكَ وَالْإِرَادَةَ لَوْ فَارَقَ الْعَبْدَ: لَانْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَكِنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ تَنَقُّلِ الْعَبْدِ فِي أَحْوَالِ سَيْرِهِ وَإِلَّا فَإِرَادَةُ الْعَبْدِ الْمُرَادَ، وَطَلَبُهُ وَسَيْرُهُ: أَشَدُّ مِنْ إِرَادَةِ غَيْرِهِ، وَطَلَبِهِ وَسَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُرَادٌ أَوَّلًا، حَيْثُ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الطَّلَبِ، وَجُذِبَ إِلَى السَّيْرِ. فَكُلِّ مُرِيدٍ مُرَادٌ. وَكُلٌّ وَاصِلٌ وَسَالِكٌ وَطَالِبٌ لَا يُفَارِقُهُ طَلَبُهُ وَلَا سَيْرُهُ، وَإِنْ تَنَوَّعَتْ طُرُقُ السَّيْرِ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْعَبْدِ. فَمِنَ السَّالِكِينَ: مَنْ يَكُونُ سَيْرُهُ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ أَغْلَبَ عَلَيْهِ مِنْ سَيْرِهِ بِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ. وَمِنْهُمْ: مَنْ سَيْرُهُ بِقَلْبِهِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ، أَعْنِي قُوَّةَ سَيْرِهِ وَحِدَّتَهُ. وَمِنْهُمْ- وَهُمُ الْكُمَّلُ الْأَقْوِيَاءُ- مَنْ يُعْطِي كُلَّ مَرْتَبَةٍ حَقَّهَا. فَيَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِبَدَنِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ صَفْوَةِ أَوْلِيَائِهِ بِأَنَّهُمْ دَائِمًا فِي مَقَامِ الْإِرَادَةِ لَهُ. فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وقال تَعَالَى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} فَالْعَبْدُ أَخَصُّ أَوْصَافِهِ، وَأَعْلَى مَقَامَاتِهِ: أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا صَادِقَ الْإِرَادَةِ، عَبْدًا فِي إِرَادَتِهِ. بِحَيْثُ يَكُونُ مُرَادُهُ تَبَعًا لِمُرَادِ رَبِّهِ الدِّينِيِّ مِنْهُ. لَيْسَ لَهُ إِرَادَةٌ فِي سِوَاهُ. وَقَدْ يُحْمَلُ كَلَامُ الشَّيْخِ عَلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ " إِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُوقِظُ الِاسْتِهَانَةَ بِالْمُجَاهَدَاتِ " أَنَّهُ يُوقِظُهُ مِنْ نَوْمِ الِاسْتِهَانَةِ بِالْمُجَاهَدَاتِ، وَتَكُونُ اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ. أَيْ يُوقِظُهُ مِنْ سِنَةِ التَّقْصِيرِ. لِاسْتِهَانَتِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ. وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا كَانَ إِلَى اللَّهِ أَقْرَبَ كَانَ جِهَادُهُ فِي اللَّهِ أَعْظَمَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}. وَتَأَمَّلْ أَحْوَالَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ. فَإِنَّهُمْ كَانُوا كُلَّمَا تَرَقَّوْا مِنَ الْقُرْبِ فِي مَقَامٍ: عَظُمَ جِهَادُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ: لَا كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الطَّرِيقِ، حَيْثُ قَالَ: الْقُرْبُ الْحَقِيقِيُّ تَنَقُّلُ الْعَبْدِ مِنَ الْأَحْوَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَيُرِيحُ الْجَسَدَ وَالْجَوَارِحَ مِنْ كَدِّ الْعَمَلِ. وَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ كُفْرًا وَإِلْحَادًا. حَيْثُ عَطَّلُوا الْعُبُودِيَّةَ. وَظَنُّوا أَنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنَ الْخَيَالَاتِ الْبَاطِلَةِ، الَّتِي هِيَ مِنْ أَمَانِيِّ النَّفْسِ، وَخِدَعِ الشَّيْطَانِ. وَكَأَنَّ قَائِلَهُمْ إِنَّمَا عَنَى نَفْسَهُ، وَذَوِي مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ: رَضُوا بِالْأَمَانِيِّ وَابْتَلُوا بِحُظُوظِهِمْ *** وَخَاضُوا بِحَارَ الْحُبِّ دَعْوَى فَمَا ابْتَلُّوا فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ *** وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا وَقَدْ صَرَّحَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ، وَأَئِمَّةُ الطَّرِيقِ: بِكُفْرِ هَؤُلَاءِ. فَأَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ. وَقَالُوا: لَوْ وَصَلَ الْعَبْدُ مِنَ الْقُرْبِ إِلَى أَعْلَى مَقَامٍ يَنَالُهُ الْعَبْدُ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ. أَيْ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَيْهِ. وَهَؤُلَاءِ يَظُنُّونَ: أَنَّهُمْ يَسْتَغْنُونَ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَنْ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ. وَأَجْمَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ. وَصَرَّحُوا بِأَنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ. قَالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: مَنِ ادَّعَى بَاطِنَ الْحَقِيقَةِ يَنْقُضُهَا ظَاهِرُ حُكْمٍ: فَهُوَ غَالِطٌ. وَقَالَ سَيِّدُ الطَّائِفَةِ الْجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَئِمَّةِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخِرُونَ، وَالْمُقَامُ عَلَى مَا سَلَكَ الْأَوَّلُونَ.. وَسُئِلَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ؟ فَقَالَ: مُلَازَمَةُ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى السُّنَّةِ، وَدَوَامُ الْمُرَاقَبَةِ. وَسُئِلَ: مَا التَّصَوُّفُ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ تَحْتَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ: مَنْ عَمِلَ بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ. وَقَالَ الشِّبْلِيُّ يَوْمًا- وَمَدَّ يَدَهُ إِلَى ثَوْبِهِ- لَوْلَا أَنَّهُ عَارِيَةٌ لَمَزَّقْتُهُ. فَقِيلَ لَهُ: رُؤْيَتُكَ فِي تِلْكَ الْغَلَبَةِ ثِيَابَكَ، وَأَنَّهَا عَارِيَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَرْبَابُ الْحَقَائِقِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيعَةُ.. وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ: لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتَّى تَنْظُرُوا: كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَالشَّرِيعَةِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ الْخَيَّاطُ: النَّاسُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانُوا مَعَ مَا يَقَعُ فِي قُلُوبِهِمْ. فَجَاءَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَرَدَّهُمْ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ. وَلَمَّا حَضَرَتْ أَبَا عُثْمَانَ الْحِيرِيَّ الْوَفَاةُ: مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصَهُ. فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: يَا بُنَيَّ خِلَافُ السُّنَّةِ فِي الظَّاهِرِ مِنْ رِيَاءِ الْبَاطِنِ فِي الْقَلْبِ. وَمِنْ كَلَامِ ابْنِ عُثْمَانَ هَذَا: أَسْلَمُ الطُّرُقِ مِنَ الِاغْتِرَارِ: طَرِيقُ السَّلَفِ، وَلُزُومُ الشَّرِيعَةِ.. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبَارَكٍ: لَا يَظْهَرُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ إِلَّا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ. وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَرَى فِيهِ اجْتِهَادًا ظَاهِرًا بِلَا نُورٍ. فَاعْلَمْ أَنَّ ثَمَّ بِدْعَةً خَفِيَّةً. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْزَمِ السَّوَادَ عَلَى الْبَيَاضِ- حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا- إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْلَحَ. وَلَقَدْ كَانَ سَادَاتُ الطَّائِفَةِ أَشَدَّ مَا كَانُوا اجْتِهَادًا فِي آخِرِ أَعْمَارِهِمْ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ:سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يَقُولُ: رُئِيَ فِي يَدِ الْجُنَيْدِ سُبْحَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ فَقَالَ: طَرِيقٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا.. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: كَانَ الْجُنَيْدُ يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ، فَيَفْتَحُ بَابَ حَانُوتِهِ. فَيَدْخُلُهُ وَيُسْبِلُ السِّتْرَ، وَيُصَلِّي أَرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى بَيْتِهِ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطَاءٍ- وَهُوَ فِي النَّزْعِ- فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ سَاعَةٍ. فَقَالَ: اعْذِرْنِي. فَإِنِّي كُنْتُ فِي وِرْدِي. ثُمَّ حَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَكَبَّرَ، وَمَاتَ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدِ بْنُ الْأَعْرَابِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الْعَطَّارَ يَقُولُ:حَضَرْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الْجُنَيْدَ- أَنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا- فَكَانَ قَاعِدًا يُصَلِّي، وَيَثْنِي رِجْلَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ رِجْلَيْهِ. فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَرَكَتُهَا، وَكَانَتَا قَدْ تَوَرَّمَتَا. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: مَا هَذَا يَا أَبَا الْقَاسِمِ؟ فَقَالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهِ. اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ لَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، لَوِ اضْطَجَعْتَ. فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، هَذَا وَقْتٌ يُؤْخَذُ فِيهِ؟ اللَّهُ أَكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ حَتَّى مَاتَ. وَدَخَلَ عَلَيْهِ شَابٌّ- وَهُوَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ. وَقَدْ تَوَرَّمَ وَجْهُهُ. وَبَيْنَ يَدَيْهِ مِخَدَّةٌ يُصَلِّي إِلَيْهَا- فَقَالَ: وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ؟ فَلَمَّا سَلَّمَ دَعَاهُ، وَقَالَ: شَيْءٌ وَصَلْتُ بِهِ إِلَى اللَّهِ، فَلَا أَدَعُهُ. وَمَاتَ بَعْدَ سَاعَةٍ. رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرِيرِيُّ: كُنْتُ وَاقِفًا عَلَى رَأْسِ الْجُنَيْدِ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ. وَكَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، وَيَوْمَ نَيْرُوزٍ. وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَرَأَيْتَ أَحَدًا أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنِّي، فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَهُوَ ذَا تُطْوَى صَحِيفَتِي؟. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْعَطَوِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ حِينَ مَاتَ. فَخَتَمَ الْقُرْآنَ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فِي خَتْمَةٍ أُخْرَى. فَقَرَأَ مِنَ الْبَقَرَةِ سَبْعِينَ آيَةً. ثُمَّ مَاتَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: رَأَيْتُ الْجُنَيْدَ فِي النَّوْمِ. فَقُلْتُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقَالَ: طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ، وَغَابَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ، وَفَنِيَتْ تِلْكَ الْعُلُومُ، وَنَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ. وَمَا نَفَعَنَا إِلَّا رَكَعَاتٌ كُنَّا نَرْكَعُهَا فِي الْأَسْحَارِ. وَتَذَاكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ، وَمَا اسْتَهَانُوا بِهِ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ بَعْدَمَا وَصَلُوا إِلَيْهِ؟فَقَالَ الْجُنَيْدُ: الْعِبَادَةُ عَلَى الْعَارِفِينَ أَحْسَنُ مِنَ التِّيجَانِ عَلَى رُءُوسِ الْمُلُوكِ. وَقَالَ:الطُّرقُ كُلُّهَا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، إِلَّا مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَاتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَلَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإِنَّ طُرُقَ الْخَيْرَاتِ كُلَّهَا مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ:مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هَانِئٍ يَقُولُ:سَأَلْتُ الْجُنَيْدَ، مَا عَلَامَةُ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: عَلَامَتُهُ طَاعَةُ مَنْ آمَنَتْ بِهِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَتَرْكُ التَّشَاغُلِ عَنْهُ بِمَا يَنْقَضِي وَيَزُولُ. فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. مَا أَتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَمَا أَقْفَاهُ لِطَرِيقَةِ أَصْحَابِهِ. وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا. يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الِاسْتِقَامَةِ فِي نِهَايَاتِهِمْ: أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ فِي بِدَايَاتِهِمْ، بَلْ كَانَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْبِدَايَةِ فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصَارَ اجْتِهَادُهُمْ فِي النِّهَايَةِ: الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ. وَصَارَتْ إِرَادَتُهُمْ دَائِرَةً مَعَهَا. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهَادَ فِي الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ. لِأَنَّهُ كَانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَا تَضَعُ إِلَى قَوْلِ مُلْحِدٍ قَاطِعٍ لِلطَّرِيقِ فِي قَالَبِ عَارِفٍ، يَقُولُ: إِنَّ مَنْزِلَةَ الْقُرْبِ تَنْقِلُ الْعَبْدَ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ. وَتَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ بِالطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَتُرِيحُهُ مِنْ كَدِّ الْقِيَامِ بِهَا.
يُرِيدُ: أَنَّ هَذِهِ الْمُلَاحَظَةَ تُخَلِّصُ الْعَبْدَ مِنْ رُعُونَةِ مُعَارَضَةِ حُكْمِ اللَّهِ الدِّينِيِّ وَالْكَوْنِيِّ، الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ بِمُعَارَضَتِهِ. فَيَسْتَسْلِمُ لِلْحُكْمَيْنِ. فَإِنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ تُشْهِدُهُ: أَنَّ الْحُكْمَيْنِ صَدَرَا عَنْ عَزِيزٍ حَكِيمٍ. فَلَا يُعَارِضُ حُكْمَهُ بِرَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا ذَوْقٍ وَلَا خَاطِرٍ. وَأَيْضًا فَتُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ مُعَارَضَاتِ السِّوَى لِلْأَمْرِ. فَإِنَّ الْأَمْرَ يُعَارَضُ بِالشَّهْوَةِ. وَالْخَبَرَ يُعَارَضُ بِالشَّكِّ وَالشُّبْهَةِ. فَمُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُخَلِّصُ قَلْبَهُ مِنْ هَاتَيْنِ الْمُعَارَضَتَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْقَلْبُ السَّلِيمُ الَّذِي لَا يُفْلِحُ إِلَّا مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِهِ. هَذَا تَفْسِيرُ أَهْلِ الْحَقِّ وَالِاسْتِقَامَةِ. وَأَمَّا أَهْلُ الْإِلْحَادِ، فَقَالُوا: الْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَاتِ هَاهُنَا: الْإِنْكَارُ عَلَى الْخَلْقِ فِيمَا يَبْدُو مِنْهُمْ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ. لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ لِعَيْنِ الْجَمْعِ يَعْلَمُ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الشُّهُودِ: كَانَتِ الْمُعَارَضَاتُ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ مِنْ رَعُونَاتِ الْأَنْفُسِ الْمَحْجُوبَةِ. وَقَالَ قُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ: الْعَارِفُ لَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، لِاسْتِبْصَارِهِ بِسِرِّ اللَّهِ فِي الْقَدَرِ. وَهَذَا عَيْنُ الِاتِّحَادِ وَالْإِلْحَادِ وَالِانْسِلَاخِ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَقَدْ أَعَاذَ اللَّهُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْمُلْحِدُ يُحَمِّلُ كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ. فَمَا الظَّنُّ بِكَلَامِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ؟ فَيُقَالُ: إِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى الْخَلْقِ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَبِهَذَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَانْقَسَمَتِ الدَّارُ إِلَى دَارِ سَعَادَةٍ لِلْمُنْكِرِينَ، وَدَارِ شَقَاوَةٍ لِلْمُنْكَرِ عَلَيْهِمْ. فَالطَّعْنُ فِي ذَلِكَ: طَعْنٌ فِي الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ: انْحِلَالٌ مِنْ رِبْقَةِ الدِّينِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الرُّسُلِ مَعَ أُمَمِهِمْ: وَجَدَهُمْ كَانُوا قَائِمِينَ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْقِيَامِ. حَتَّى لَقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَأَوْصَوْا مَنْ آمَنَ بِهِمْ بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّ الْمُتَخَلِّصَ مِنْ مَقَامَاتِ الْإِنْكَارِ الثَّلَاثَةِ لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ. وَبَالَغَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَشَدَّ الْمُبَالَغَةِ، حَتَّى قَالَ إِنَّ النَّاسَ إِذَا تَرَكُوهُ: أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ. وَأَخْبَرَ أَنَّ تَرْكَهُ: يُوقِعُ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَالْوُجُوهِ. وَيُحِلُّ لَعْنَةَ اللَّهِ. كَمَا لَعَنَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَرْكِهِ. فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِنْكَارُ مِنْ رَعُونَاتِ النُّفُوسِ، وَهُوَ مَقْصُودُ الشَّرِيعَةِ؟ وَهَلِ الْجِهَادُ إِلَّا عَلَى أَنْوَاعِ الْإِنْكَارِ. وَهُوَ جِهَادٌ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنْكَارٌ بِاللِّسَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُشَاهِدَ: أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنَ الْخَلَائِقِ: مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَيُقَالُ لَهُ: الرَّبُّ تَعَالَى لَهُ مَرَادَانِ: كَوْنِيٌّ، وَدِينِيٌّ. فَهَبْ أَنَّ مُرَادَهُ الْكَوْنِيَّ مِنْهُمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ. فَمُرَادُهُ الدِّينِيُّ الْأَمْرِيُّ الشَّرْعِيُّ: هُوَ الْإِنْكَارُ عَلَى أَصْحَابِ الْمُرَادِ الْكَوْنِيِّ. فَإِذَا عَطَّلْتَ مُرَادَهُ الدِّينِيَّ: لَمْ تَكُنْ وَاقِفًا مَعَ مُرَادِهِ الدِّينِيِّ، الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَلَا يَنْفَعُكَ وُقُوفُكَ مَعَ مُرَادِهِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي قَدَّرَهُ وَقَضَاهُ. إِذْ لَوْ نَفَعَكَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّرَائِعِ مَعْنًى أَلْبَتَّةَ. وَلَا لِلْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ، وَلَا لِلْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا لِلْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي الظَّلَمَةِ وَالْفُجَّارِ، وَكَفِّ عُدْوَانِهِمْ وَفُجُورِهِمْ. فَإِنَّ الْعَارِفَ عِنْدَكَ: يَشْهَدُ أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْهُمْ: هُوَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا فَسَادُ الدُّنْيَا قَبْلَ الْأَدْيَانِ. فَهَذَا الْمَذْهَبُ الْخَبِيثُ لَا يُصْلُحُ عَلَيْهِ دُنْيَا وَلَا دِينٌ، وَلَكِنَّهُ رُعُونَةُ نَفْسٍ قَدْ أَخْلَدَتْ إِلَى الْإِلْحَادِ، وَكَفَرَتْ بِدِينِ رَبِّ الْعِبَادِ. وَاتَّخَذَتْ تَعْطِيلَ الشَّرَائِعِ دِينًا وَمَقَامًا، وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ مُسَامَرَةً وَإِلْهَامًا. وَجَعَلَتْ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى مُبْطِلَةً لِمَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ. وَمُعَطِّلَةً لِمَا أَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ. وَجَعَلُوا هَذَا الْإِلْحَادَ غَايَةَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ، وَأَشْرَفَ الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ. وَدَعَوْا إِلَى ذَلِكَ النُّفُوسَ الْمُبَطِلَةِ الْجَاهِلَةِ بِاللَّهِ وَدِينِهِ. فَلَبَّوْا دَعْوَتَهُمْ مُسْرِعِينَ، وَاسْتَخَفَّ الدَّاعِي مِنْهُمْ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ. إِنَّهُمْ كَانُوا قُوْمًا فَاسِقِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ الْإِنْكَارَ: مِنْ مُعَارَضَاتِ النُّفُوسِ الْمَحْجُوبَةِ. فَلَعَمْرُ اللَّهِ: إِنَّهُمْ لَفِي حِجَابٍ مَنِيعٍ مِنْ هَذَا الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ. وَلَكِنَّهُمْ يُشْرِفُونَ عَلَى أَهْلِهِ وَهُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ، وَفِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلِأَتْبَاعِ الرُّسُلِ يُحَارِبُونَ، وَإِلَى خِلَافِ طَرِيقِهِمْ يَدْعُونَ. وَبِغَيْرِ هُدَاهُمْ يَهْتَدُونَ. وَعَنْ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ نَاكِبُونَ. وَلِمَا جَاءَا بِهِ يُعَارِضُونَ {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.
يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مُلَاحَظَةَ عَيْنِ الْجَمْعِ: تُفِيدُ صَاحِبَهَا مُطَالَعَةَ السَّوَابِقِ الَّتِي ابْتَدَأَهُ اللَّهُ بِهَا. فَتُفِيدُهُ مُلَاحَظَةُ عَيْنِ الْجَمْعِ نَظْرَةً إِلَى أَوَّلِيَّةِ الرَّبِّ تَعَالَى فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْبِدَايَاتِ: بِدَايَاتِ سُلُوكِهِ، وَحِدَّةَ طَلَبِهِ. فَإِنَّهُ فِي حَالِ سُلُوكِهِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، لِشِدَّةِ شُغْلِهِ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ. وَغَلَبَةِ أَحْكَامِ الْهِمَّةِ عَلَيْهِ. فَلَا يَتَفَرَّغُ لِمُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. فَإِذَا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ: قَطَعَ السُّلُوكَ الْأَوَّلَ. وَبَقِيَ لَهُ سُلُوكٌ ثَانٍ. فَتَفَرَّغَ حِينَئِذٍ إِلَى مُطَالَعَةِ بِدَايَاتِهِ. وَوَجَدَ اشْتِيَاقًا مِنْهُ إِلَيْهَا، كَمَاقَالَ الْجُنَيْدُ: وَاشَوْقَاهُ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ. يَعْنِي: لَذَّةَ أَوْقَاتِ الْبِدَايَةِ، وَجَمْعِ الْهِمَّةِ عَلَى الطَّلَبِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. فَإِنَّهُ كَانَ مَجْمُوعَ الْهِمَّةِ عَلَى السَّيْرِ وَالطَّلَبِ. فَلَمَّا لَاحَظَ عَيْنَ الْجَمْعِ فَنِيَتْ رُسُومُهُ، وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ الْفَنَاءُ عَنْ بَشَرِيَّتِهِ، وَأَحْكَامِ طَبِيعَتِهِ. فَتَقَاضَتْ طِبَاعُهُ مَا فِيهَا. فَلَزِمَتْهُ الْكُلَفُ. فَارْتَاحَ إِلَى أَوْقَاتِ الْبِدَايَاتِ، لِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ لَذَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعِ الْهِمَّةِ. وَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. فَقَالَ: هَكَذَا كُنَّا حَتَّى قَسَتْ قُلُوبُنَا. وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّةً. وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ. فَالطَّالِبُ الْجَادُّ: لَا بُدَّ أَنْ تَعْرِضَ لَهُ فَتْرَةٌ. فَيَشْتَاقُ فِي تِلْكَ الْفَتْرَةِ إِلَى حَالِهِ وَقْتَ الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ. وَلَمَّا فَتَرَ الْوَحْيُ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَغْدُو إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيُلْقِيَ نَفْسَهُ. فَيَبْدُوَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَقُولَ لَهُ: إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ. فَتَخَلُّلُ الْفَتَرَاتِ لِلسَّالِكِينَ: أَمْرٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ مِنْهُ. فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى مُقَارَبَةٍ وَتَسْدِيدٍ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ مِنْ فَرْضٍ، وَلَمْ تُدْخِلْهُ فِي مُحَرَّمٍ: رَجَا لَهُ أَنْ يَعُودَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: إِنَّ لِهَذِهِ الْقُلُوبِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا. فَإِذَا أَقْبَلَتْ فَخُذُوهَا بِالنَّوَافِلِ. وَإِنْ أَدْبَرَتْ فَأَلْزِمُوهَا الْفَرَائِضَ. وَفِي هَذِهِ الْفَتَرَاتِ وَالْغُيُومِ وَالْحُجُبِ، الَّتِي تَعْرِضُ لِلسَّالِكِينَ: مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ. وَبِهَا يَتَبَيَّنُ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ. فَالْكَاذِبُ: يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ. وَيَعُودُ إِلَى رُسُومِ طَبِيعَتِهِ وَهَوَاهُ. وَالصَّادِقُ: يَنْتَظِرُ الْفَرَجَ. وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ. وَيُلْقِي نَفْسَهُ بِالْبَابِ طَرِيحًا ذَلِيلًا مِسْكِينًا مُسْتَكِينًا، كَالْإِنَاءِ الْفَارِغِ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، يَنْتَظِرُ أَنْ يَضَعَ فِيهِ مَالِكُ الْإِنَاءِ وَصَانِعُهُ مَا يَصْلُحُ لَهُ، لَا بِسَبَبٍ مِنَ الْعَبْدِ- وَإِنْ كَانَ هَذَا الِافْتِقَارُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ- لَكِنْ لَيْسَ هُوَ مِنْكَ. بَلْ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْكَ بِهِ. وَجَرَّدَكَ مِنْكَ. وَأَخْلَاكَ عَنْكَ. وَهُوَ الَّذِي {يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}. فَإِذَا رَأَيْتَهُ قَدْ أَقَامَكَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَرْحَمَكَ وَيَمْلَأَ إِنَاءَكَ، فَإِنْ وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَلْبٌ مُضَيِّعٌ. فَسَلْ رَبَّهُ وَمَنْ هُوَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ: أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْكَ وَيَجْمَعَ شَمْلَكَ بِهِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ: إِذَا مَا وَضَعْتَ الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ *** بِغَيْرِ إِنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيِّعُ
وَمِنْهَا الْوَقْتُ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الْوَقْتِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} الْوَقْتُ اسْمٌ لِظَرْفِ الْكَوْنِ. وَهُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ، عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ، لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ، أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ. أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ. وَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدَّرَ مَجِيءَ مُوسَى أَحْوَجَ مَا كَانَ الْوَقْتُ إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: جَاءَ فُلَانٌ عَلَى قَدَرٍ. إِذَا جَاءَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. قَالَ جَرِيرٌ: نَالَ الْخِلَافَةَ إِذْ كَانَتْ عَلَى قَدَرٍ *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى مَوْعِدٍ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ. لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مَوْعِدٌ لِلْمَجِيءِ، حَتَّى يُقَالَ: إِنَّهُ أَتَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْعِدِ. وَلَكِنْ وَجْهُ هَذَا: أَنَّ الْمَعْنَى: جِئْتَ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدْنَا أَنْ نُنْجِزَهُ، وَالْقَدَرِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَعَدَ بِإِرْسَالِ نَبِيٍّ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَمْلَأُ الْأَرْضَ نُورًا وَهُدًى. فَلَمَّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ: عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ أَنْجَزَ ذَلِكَ الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَ بِهِ. وَاسْتِشْهَادُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَحَلِّهِ مِنَ الْعِلْمِ. لِأَنَّ الشَّيْءَ إِذَا وَقَعَ فِي وَقْتِهِ الَّذِي هُوَ أَلْيَقُ الْأَوْقَاتِ بِوُقُوعِهِ فِيهِ: كَانَ أَحْسَنَ وَأَنْفَعَ وَأَجْدَى. كَمَا إِذَا وَقَعَ الْغَيْثُ فِي أَحْوَجِ الْأَوْقَاتِ إِلَيْهِ. وَكَمَا إِذَا وَقَعَ الْفَرَجُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ. وَمَنْ تَأَمَّلَ أَقْدَارَ الرَّبِّ تَعَالَى، وَجَرَيَانَهَا فِي الْخَلْقِ: عَلِمَ أَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِي أَلْيَقِ الْأَوْقَاتِ بِهَا. فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى: أَحْوَجَ مَا كَانَ النَّاسُ إِلَى بِعْثَتِهِ. وَبَعَثَ عِيسَى كَذَلِكَ. وَبَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ: أَحْوَجَ مَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ إِلَى إِرْسَالِهِ. فَهَكَذَا وَقْتُ الْعَبْدِ مَعَ اللَّهِ يُعَمِّرُهُ بِأَنْفَعِ الْأَشْيَاءِ لَهُ: أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَى عِمَارَتِهِ. قَوْلُهُ " الْوَقْتُ: ظَرْفُ الْكَوْنِ " الْوَقْتُ: عِبَارَةٌ عَنْ مُقَارَبَةِ حَادِثٍ لِحَادِثٍ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَهُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ حَادِثَيْنِ. فَقَوْلُهُ " ظَرْفُ الْكَوْنِ " أَيْ وِعَاءُ التَّكْوِينِ. فَهُوَ الْوِعَاءُ الزَّمَانِيُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ التَّكْوِينُ. كَمَا أَنَّ ظَرْفَ الْمَكَانِ: هُوَ الْوِعَاءُ الْمَكَانِيُّ، الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْجِسْمُ. وَلَكِنَّ الْوَقْتَ فِي اصْطِلَاحِ الْقَوْمِ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: الْوَقْتُ مَا أَنْتَ فِيهِ. فَإِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا فَوَقْتُكَ الدُّنْيَا وَإِنْ كُنْتَ بِالْعُقْبَى فَوَقْتُكَ الْعُقْبَى. وَإِنْ كُنْتَ بِالسُّرُورِ فَوَقْتُكَ السُّرُورُ. وَإِنْ كُنْتَ بِالْحُزْنِ فَوَقْتُكَ الْحُزْنُ. يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا كَانَ الْغَالِبَ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَالِهِ. وَقَدْ يُرِيدُ: أَنَّ الْوَقْتَ مَا بَيْنَ الزَّمَانَيْنِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ. وَهُوَ اصْطِلَاحُ أَكْثَرِ الطَّائِفَةِ. وَلِهَذَا يَقُولُونَ: الصُّوفِيُّ وَالْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ. يُرِيدُونَ: أَنَّ هِمَّتَهُ لَا تَتَعَدَّى وَظِيفَةَ عِمَارَتِهِ بِمَا هُوَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِهِ، وَأَنْفَعُهَا لَهُ. فَهُوَ قَائِمٌ بِمَا هُوَ مُطَالَبٌ بِهِ فِي الْحِينِ وَالسَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ. فَهُوَ لَا يَهْتَمُّ بِمَاضِي وَقْتِهِ وَآتِيهِ، بَلْ يَهْتَمُّ بِوَقْتِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْوَقْتِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ يُضَيِّعُ الْوَقْتَ الْحَاضِرَ، وَكُلَّمَا حَضَرَ وَقْتٌ اشْتَغَلَ عَنْهُ بِالطَّرَفَيْنِ. فَتَصِيرُ أَوْقَاتُهُ كُلُّهَا فَوَاتًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ. فَمَا انْتَفَعْتُ مِنْهُمْ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ، سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: الْوَقْتُ سَيْفٌ. فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ. وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ، وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ. قُلْتُ: يَا لَهُمَا مِنْ كَلِمَتَيْنِ، مَا أَنْفَعَهُمَا وَأَجْمَعَهُمَا، وَأَدَلَّهُمَا عَلَى عُلُوِّ هِمَّةِ قَائِلِهِمَا، وَيَقَظَتِهِ. وَيَكْفِي فِي هَذَا ثَنَاءُ الشَّافِعِيِّ عَلَى طَائِفَةِ هَذَا قَدْرَ كَلِمَاتِهِمْ. وَقَدْ يُرِيدُونَ بِالْوَقْتِ: مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. وَهُوَ مَا يُصَادِفُهُمْ فِي تَصْرِيفِ الْحَقِّ لَهُمْ. دُونَ مَا يَخْتَارُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ. وَيَقُولُونَ: فُلَانٌ بِحُكْمِ الْوَقْتِ. أَيْ مُسْتَسْلِمٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ. وَهَذَا يَحْسُنُ فِي حَالٍ، وَيَحْرُمُ فِي حَالٍ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ. فَيَحْسُنُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْعَبْدِ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. بَلْ فِي مَوْضِعِ جَرَيَانِ الْحُكْمِ الْكَوْنِيِّ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، كَالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ، وَالْغُرْبَةِ وَالْجُوعِ، وَالْأَلَمِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَيَحْرُمُ فِي الْحَالِ الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهِ فِيهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ. فَإِنَّ التَّضْيِيعَ لِذَلِكَ وَالِاسْتِسْلَامَ، وَالِاسْتِرْسَالَ مَعَ الْقَدَرِ: انْسِلَاخٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَيُنْقِصُ صَاحِبَهُ فِي حَالٍ تَقْتَضِي قِيَامًا بِالنَّوَافِلِ، وَأَنْوَاعِ الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ خَيْرًا: أَعَانَهُ بِالْوَقْتِ. وَجَعَلَ وَقْتَهَ مُسَاعِدًا لَهُ. وَإِذَا أَرَادَ بِهِ شَرًّا: جَعَلَ وَقْتَهُ عَلَيْهِ، وَنَاكَدَهُ وَقْتَهُ. فَكُلَّمَا أَرَادَ التَّأَهُّبَ لِلْمَسِيرِ: لَمْ يُسَاعِدْهُ الْوَقْتُ. وَالْأَوَّلُ: كُلَّمَا هَمَّتْ نَفْسُهُ بِالْقُعُودِ أَقَامَهُ الْوَقْتُ وَسَاعَدَهُ. وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الصُّوفِيَّةَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَصْحَابُ السَّوَابِقِ، وَأَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ، وَأَصْحَابُ الْوَقْتِ، وَأَصْحَابُ الْحَقِّ. قَالَ: فَأَمَّا أَصْحَابُ السَّوَابِقِ: فَقُلُوبُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ. لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. وَيَقُولُونَ: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدْنِهِ الْوَسَائِلُ. فَفِكْرُهُمْ فِي هَذَا أَبَدًا. وَمَعَ ذَلِكَ: فَهُمْ يَجِدُّونَ فِي الْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي، وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ، غَيْرَ وَاثِقِينَ بِهَا، وَلَا مُلْتَفِتِينَ إِلَيْهَا، وَيَقُولُ قَائِلُهُمْ: مِنْ أَيْنَ أُرْضِيكَ إِلَّا أَنْ تُوَفِّقَنِي *** هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا التَّوْفِيقُ مِنْ قِبَلِي إِنْ لَمْ يَكُنْ لِي فِي الْمَقْدُورِ سَابِقَةٌ *** فَلَيْسَ يَنْفَعُ مَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلِي وَأَمَّا أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ: فَهُمْ مُتَفَكِّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ. فَإِنَّ الْأُمُورَ بِأَوَاخِرِهَا. وَالْأَعْمَالَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ. كَمَا قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَا الْأَوْقَاتِ *** فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ فَكَمْ مِنْ رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أَشْجَارُهُ، وَتَفَتَّحَتْ أَزْهَارُهُ، وَزَهَتْ ثِمَارُهُ، لَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ سَمَاوِيَّةٌ. فَصَارَ كَمَا قَالَ اللَّهُ عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا}- إِلَى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ}. فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ كَبَا بِهِ جَوَادُ عَزْمِهِ *** فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ- وَقَدْ شُوهِدَ مِنْهُ خِلَافُ مَا كَانَ يُعْهَدُ عَلَيْهِ-: مَا الَّذِي أَصَابَكَ؟ فَقَالَ: حِجَابٌ وَقَعَ، وَأَنْشَدَ: أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ *** وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا *** وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا؟ تَعْجَبِينَ مِنْ سَقَمِي *** صِحَّتِي هِيَ الْعَجَبُ النَّاكِصُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ: خُذْ مِنَ الْأَلْفِ وَاحِدًا *** وَاطَّرِحِ الْكُلَّ مِنْ بَعْدِهِ وَأَمَّا أَصْحَابُ الْوَقْتِ: فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالسَّوَابِقِ، وَلَا بِالْعَوَاقِبِ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِمُرَاعَاةِ الْوَقْتِ، وَمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ. وَقَالُوا: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. لَا مَاضِيَ لَهُ وَلَا مُسْتَقْبَلَ. وَرَأَى بَعْضُهُمُ الصِّدِّيقَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي مَنَامِهِ. فَقَالَ لَهُ: أَوْصِنِي. فَقَالَ لَهُ: كُنِ ابْنَ وَقْتِكَ. وَأَمَّا أَصْحَابُ الْحَقِّ: فَهُمْ مَعَ صَاحِبِ الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ، وَمَالِكِهِمَا وَمُدَبِّرِهِمَا. مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِهِ عَنْ مُشَاهَدَةِ الْأَوْقَاتِ. لَا يَتَفَرَّغُونَ لِمُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَلَا زَمَانٍ. كَمَا قِيلَ: لَسْتُ أَدْرِي أَطَالَ لَيْلِي أَمْ لَا *** كَيْفَ يَدْرِي بِذَاكَ مَنْ يَتَقَلَّى لَوْ تَفَرَّغْتُ لِاسْتِطَالَةِ لَيْلِي *** وَلِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخَلَّى إِنَّ لِلْعَاشِقِينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْـ *** ـلِ، وَعَنْ طُولِهِ مِنَ الْعِشْقِ شُغْلَا قَالَ الْجُنَيْدُ: دَخَلْتُ عَلَى السَّرِيِّ يَوْمًا. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَأَنْشَأَ يَقُولُ: مَا فِي النَّهَارِ وَلَا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَجٌ *** فَلَا أُبَالِي أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكُمْ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُتَطَلِّعٍ إِلَى الْأَوْقَاتِ. بَلْ هُوَ مَعَ الَّذِي قَدَّرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارِ.
الْوَقْتُ: اسْمٌ فِي هَذَا الْبَابِ لِثَلَاثِ مَعَانٍ. الْمَعْنَى الْأَوَّلُ: حِينَ وَجْدٍ صَادِقٍ. أَيْ وَقْتُ وَجْدٍ صَادِقٍ، أَيْ زَمَنُ مَنْ وَجَدَ يَقُومُ بِقَلْبِهِ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيهِ، غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ لَهُ، وَلَا مُتَعَمِّلٍ فِي تَحْصِيلِهِ. " يَكُونُ مُتَعَلَّقَهُ إِينَاسُ ضِيَاءِ فَضْلٍ " أَيْ رُؤْيَةُ ذَلِكَ، وَالْإِينَاسُ الرُّؤْيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} وَلَيْسَ هُوَ مُجَرَّدَ الرُّؤْيَةِ. بَلْ رُؤْيَةُ مَا يَأْنَسُ بِهِ الْقَلْبُ، وَيَسْكُنُ إِلَيْهِ. وَلَا يُقَالُ لِمَنْ رَأَى عَدُوَّهُ أَوْ مُخَوِّفًا آنَسَهُ. وَمَقْصُودُهُ: أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ وَقْتُ وَجْدٍ، صَاحِبُهُ صَادِقٌ فِيهِ لِرُؤْيَتِهِ ضِيَاءَ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ. وَالْفَضْلُ هُوَ الْعَطَاءُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُعْطَى، أَوْ يُعْطَى فَوْقَ اسْتِحْقَاقِهِ. فَإِذَا آنَسَ هَذَا الْفَضْلَ، وَطَالَعَهُ بِقَلْبِهِ: أَثَارَ ذَلِكَ فِيهِ وَجْدًا آخَرَ، بَاعِثًا عَلَى مَحَبَّةِ صَاحِبِ الْفَضْلِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. وَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ حَصَلَ لَهُ وَجْدٌ أَبْكَاهُ. فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ؟ فَقَالَ: ذَكَرْتُ مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ مِنَ السُّنَّةِ وَمَعْرِفَتِهَا، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ وَقَوَاعِدِهِمُ الْبَاطِلَةِ، وَمُوَافَقَةِ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ، وَالْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ، لِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَرَّنِي ذَلِكَ حَتَّى أَبْكَانِي. فَهَذَا الْوَجْدُ أَثَارَهُ إِينَاسُ فَضْلِ اللَّهِ وَمِنَّتِهِ. قَوْلُهُ " جَذَبَهُ صَفَاءُ رَجَاءٍ " أَيْ جَذَبَ ذَلِكَ الْوَجْدَ- أَوِ الْإِينَاسَ، أَوِ الْفَضْلَ- رَجَاءٌ صَافٍ غَيْرُ مُكَدَّرٍ. وَالرَّجَاءُ الصَّافِي هُوَ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ كَدَرُ تَوَهُّمِ مُعَاوَضَةٍ مِنْكَ، وَأَنَّ عَمَلَكَ هُوَ الَّذِي بَعَثَكَ عَلَى الرَّجَاءِ. فَصَفَاءُ الرَّجَاءِ يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ. بَلْ يَكُونُ رَجَاءً مَحْضًا لِمَنْ هُوَ مُبْتَدِئُكَ بِالنِّعَمِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقِكَ. وَالْفَضْلُ كُلُّهُ لَهُ وَمِنْهُ، وَفِي يَدِهِ- أَسْبَابُهُ وَغَايَاتُهُ، وَوَسَائِلُهُ، وَشُرُوطُهُ، وَصَرْفُ مَوَانِعِهِ- كُلِّهَا بِيَدِ اللَّهِ. لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ تَوْفِيقِهِ، وَإِذْنِهِ وَمَشِيئَتِهِ. وَمُلَخَّصُ ذَلِكَ: أَنَّ الْوَقْتَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ الْأُولَى: عِبَارَةٌ عَنْ وَجْدٍ صَادِقٍ، سَبَبُهُ رُؤْيَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى عَبْدِهِ. لِأَنَّ رَجَاءَهُ كَانَ صَافِيًا مِنَ الْأَكْدَارِ. قَوْلُهُ " أَوْ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ " اللَّامُ فِي قَوْلِهِ " أَوْ لِعِصْمَةٍ " مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ " أَوْ لِإِينَاسِ ضِيَاءِ فَضْلٍ " أَيْ وَجْدٍ لِعِصْمَةٍ جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ. فَاللَّامُ لَيْسَتْ لِلتَّعْلِيلِ. بَلْ هِيَ عَلَى حَدِّهَا فِي قَوْلِكَ: ذَوْقٌ لِكَذَا، وَرُؤْيَةٌ لِكَذَا. فَمُتَعَلَّقُ الْوَجْدِ عِصْمَةٌ وَهِيَ مَنَعَةٌ وَحِفْظٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ. جَذَبَهَا صِدْقُ خَوْفٍ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْدِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا: أَنَّ الْوَجْدَ فِي الْأُولَى: جَذَبَهُ صِدْقُ الرَّجَاءِ. وَفِي الثَّانِيَةِ: جَذَبَهُ صِدْقُ الْخَوْفِ. وَفِي الثَّالِثَةِ- الَّتِي سَتُذْكَرُ- جَذَبَهُ صِدْقُ الْحُبِّ. فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ لِتَلَهُّبِ شَوْقٍ جَذَبَهُ اشْتِعَالُ مَحَبَّةٍ. وَخَدَمَتْهُ التَّوْرِيَةُ فِي اللَّهِيبِ وَالِاشْتِعَالِ. وَالْمَحَبَّةُ مَتَى قَوِيَتِ اشْتَعَلَتْ نَارُهَا فِي الْقَلْبِ. فَحَدَثَ عَنْهَا لَهِيبُ الِاشْتِيَاقِ إِلَى لِقَاءِ الْحَبِيبِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ، الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ- وَهِيَ: الْحُبُّ وَالْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ- هِيَ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى عِمَارَةِ الْوَقْتِ بِمَا هُوَ الْأَوْلَى لِصَاحِبِهِ وَالْأَنْفَعُ لَهُ، وَهِيَ أَسَاسُ السُّلُوكِ، وَالسَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَةَ فِي قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ قُطْبُ رَحَى الْعُبُودِيَّةِ. وَعَلَيْهَا دَارَتْ رَحَى الْأَعْمَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّانِي: اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ. يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ، لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ. يَسْلُكُ الْحَالَ، وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ، وَالْحَالُ يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ. فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا: يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا. وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا، وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا. هَذَا الْمَعْنَى: هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنَ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ عِنْدَهُ. قَوْلُهُ " اسْمٌ لِطَرِيقِ سَالِكٍ " هُوَ عَلَى الْإِضَافَةِ. أَيْ لِطَرِيقِ عَبْدٍ سَالِكٍ. قَوْلُهُ " يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ " أَيْ ذَلِكَ الْعَبْدُ يَسِيرُ بَيْنَ تَمَكُّنٍ وَتَلَوُّنٍ. وَالتَّمَكُّنُ هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالشُّهُودِ وَالْحَالِ، وَالتَّلَوُّنُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً: هُوَ الِانْقِيَادُ إِلَى أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ بِالْعِلْمِ. فَالْحَالُ يَجْمَعُهُ بِقُوَّتِهِ وَسُلْطَانِهِ. فَيُعْطِيهِ تَمْكِينًا. وَالْعِلْمُ بِلَوْنِهِ بِحَسَبِ مُتَعَلَّقَاتِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا هُوَ؟ يَسْلُكُ الْحَالَ. وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ هُوَ سَالِكٌ إِلَى التَّمَكُّنِ مَا دَامَ يَسْلُكُ الْحَالَ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الْعِلْمِ. فَأَمَّا إِنْ سَلَكَ الْعِلْمَ، وَالْتَفَتَ إِلَى الْحَالِ: لَمْ يَكُنْ سَالِكًا إِلَى التَّمَكُّنِ. فَالسَّالِكُونَ ضَرْبَانِ: سَالِكُونَ عَلَى الْحَالِ، مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْعِلْمِ. وَهُمْ إِلَى التَّمَكُّنِ أَقْرَبُ، وَسَالِكُونَ عَلَى الْعِلْمِ. مُلْتَفِتُونَ إِلَى الْحَالِ. وَهُمْ إِلَى التَّلَوُّنِ أَقْرَبُ. هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ: هِيَ الْمُفَرِّقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْحَالِ، حَتَّى كَأَنَّهُمَا غَيْرَانِ وَحِزْبَانِ، وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمَا لَا تَأْنَسُ بِالْأُخْرَى، وَلَا تُعَاشِرُهَا إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَنَوْعِ اسْتِكْرَاهٍ. وَهَذَا مِنْ تَقْصِيرِ الْفَرِيقَيْنِ، حَيْثُ ضَعُفَ أَحَدُهُمَا عَنِ السَّيْرِ فِي الْعِلْمِ. وَضَعُفَ الْآخَرُ عَنِ الْحَالِ فِي الْعِلْمِ. فَلَمْ يَتَمَكَّنْ كُلٌّ مِنْهُمَا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. فَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْعِلْمَ، وَسَعَتَهُ وَنُورَهُ. وَرَجَّحُوهُ. وَأَخَذَ هَؤُلَاءِ الْحَالَ وَسُلْطَانَهُ وَتَمْكِينَهُ وَرَجَّحُوهُ. وَصَارَ الصَّادِقُ الضَّعِيفُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ: يَسِيرُ بِأَحَدِهِمَا مُلْتَفِتًا إِلَى الْآخَرِ. فَهَذَا مُطِيعٌ لِلْحَالِ. وَهَذَا مُطِيعٌ لِلْعِلْمِ. لَكِنَّ الْمُطِيعَ لِلْحَالِ مَتَى عَصَى بِهِالْعَلَمَ: كَانَ مُنْقَطِعًا مَحْجُوبًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنَ الْحَالِ مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ. وَالْمُطِيعُ لِلْعِلْمِ مَتَى أَعْرَضَ بِهِ عَنِ الْحَالِ كَانَ مُضَيِّعًا مَنْقُوصًا، مُشْتَغِلًا بِالْوَسِيلَةِ عَنِ الْغَايَةِ. وَصَاحِبُ التَّمْكِينِ: يَتَصَرَّفُعِلْمُهُ فِي حَالِهِ. وَيَحْكُمُ عَلَيْهِ فَيَنْقَادُ لِحُكْمِهِ، وَيَتَصَرَّفُ حَالُهُ فِي عِلْمِهِ. فَلَا يَدَعُهُ أَنْ يَقِفَ مَعَهُ. بَلْ يَدْعُوهُ إِلَى غَايَةِ الْعِلْمِ. فَيُجِيبُهُ وَيُلَبِّي دَعْوَتَهُ. فَهَذِهِ حَالُ الْكُمَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَمَنِ اسْتَقْرَأَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. فَلَمَّا فَرَّقَ الْمُتَأَخِّرُونَ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ: دَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّقْصُ وَالْخَلَلُ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} فَكَذَلِكَ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ عِلْمًا. وَلِمَنْ يَشَاءُ حَالًا. وَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِمَنْ يَشَاءُ. وَيُخْلِي مِنْهُمَا مَنْ يَشَاءُ. قَوْلُهُ " فَالْعِلْمُ يَشْغَلُهُ فِي حِينٍ " أَيْ يَشْغَلُهُ عَنِ السُّلُوكِ إِلَى تَمَكُّنِ الْحَالِ. لِأَنَّ الْعَلَمَ مُتَنَوِّعُ التَّعَلُّقَاتِ فَهُوَ يُفَرِّقُ. وَالْحَالُ يَجْمَعُ. لِأَنَّهُ يَدْعُوهُ إِلَى الْفَنَاءِ. وَهُنَاكَ سُلْطَانُ الْحَالِ. قَوْلُهُ " وَالْحَالُ يَحْمِلُهُ فِي حِينٍ " أَيْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْحَالُ تَارَةً. فَيَصِيرُ مَحْمُولًا بِقُوَّةِ الْحَالِ وَسُلْطَانِهِ عَلَى السُّلُوكِ. فَيَشْتَدُّ بِحُكْمِ الْحَالِ، يَعْنِي: وَإِذَا غَلَبَهُ الْعِلْمُ شَغَلَهُ عَنِ السُّلُوكِ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ طَرِيقَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُمْ يَشْغَلُ عَنِ السُّلُوكِ. وَلِهَذَا يَعُدُّونَ السَّالِكَ مَنْ سَلَكَ عَلَى الْحَالِ مُلْتَفِتًا عَنِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ- مِنْ أَنَّ الْعِلْمَ يُعِينُ عَلَى السُّلُوكِ، وَيَحْمِلُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ صَاحِبُهُ سَالِكًا بِهِ وَفِيهِ- فَلَا يَشْغَلُهُ الْعِلْمُ عَنْ سُلُوكِهِ. وَإِنْ أَضْعَفَ سَيْرَهُ عَلَى دَرْبِ الْفَنَاءِ. فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يُجَامِعُ الْفَنَاءَ. فَالْفَنَاءُ لَيْسَ هُوَ غَايَةَ السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ. بَلْ وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ عَارِضًا مِنْ عَوَارِضِهَا. يَعْرِضُ لِغَيْرِ الْكُمَّلِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ. فَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَنَاءَ الْكَامِلَ، الَّذِي هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ: هُوَ الْفَنَاءُ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَى اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ. فَيَفْنَى بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ. وَبِإِرَادَتِهِ وَرَجَائِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ: عَنْ إِرَادَةِ مَا سِوَاهُ وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ. وَهَذَا الْفَنَاءُ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ بِحَالٍ. وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَهُ. بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَعْظَمِ أَعْوَانِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ غَفَلَ عَنْهُ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ، بِحَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَمْ يَسْلُكُوهُ. وَلَكِنْ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ الْأَرْضَ مِنْ قَائِمٍ بِهِ، دَاعٍ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ " فَبَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا " أَيْ عَذَابُهُ وَأَلَمُهُ: بَيْنَ دَاعِي الْحَالِ وَدَاعِي الْعِلْمِ. فَإِيمَانُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْعِلْمِ، وَوَارِدُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى إِجَابَةِ دَاعِي الْحَالِ. فَيَصِيرُ كَالْغَرِيمِ بَيْنَ مُطَالِبَيْنِ. كُلٌّ مِنْهُمَا يُطَالِبُهُ بِحَقِّهِ. وَلَيْسَ بِيَدِهِ إِلَّا مَا يَقْضِي أَحَدَهُمَا. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ هَذَا مِنَ الضِّيقِ. وَإِلَّا فَمَعَ السَّعَةِ: يُوَفِّي كُلًّا مِنْهُمَا حَقَّهُ. قَوْلُهُ " يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا " أَيْ ذَلِكَ الْبَلَاءُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ يُذِيقُهُ شُهُودًا طَوْرًا، وَهُوَ الطَّوْرُ الَّذِي يَكُونُ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ فِيهِ: هُوَ الْعِلْمَ. قَوْلُهُ " وَيَكْسُوهُ عِبْرَةً طَوْرًا " الظَّاهِرُ: أَنَّهُ عِبْرَةٌ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْعَيْنِ، أَيِ اعْتِبَارًا بِأَفْعَالِهِ، وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ بِهَا. فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَفْعَالِهِ. فَالْعِلْمُ يَكْسُو صَاحِبَهُ اعْتِبَارًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَى الرَّبِّ بِأَفْعَالِهِ. وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَةً، بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ تَحْتٍ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعِلْمَ يَكْسُوهُ غَيْرَةً مِنْ حِجَابِهِ عَنْ مَقَامِ صَاحِبِ الْحَالِ. فَيَغَارُ مِنِ احْتِجَاجِهِ عَنِ الْحَالِ بِالْعِلْمِ، وَعَنِ الْعِيَانِ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَعَنِ الشُّهُودِ- الَّذِي هُوَ مَقَامُ الْإِحْسَانِ- بِالْإِيمَانِ، الَّذِي هُوَ إِيمَانٌ بِالْغَيْبِ. قَوْلُهُ " وَيُرِيهِ غَيْرَةَ تَفَرُّقٍ طَوْرًا " هَذَا بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ لَيْسَ إِلَّا، أَيْ وَيُرِيهِ الْعِلْمُ غَيْرَةَ تَفْرِقَةٍ فِي أَوْدِيَتِهِ. فَيُفَرِّقُ بَيْنَ أَحْكَامِ الْحَالِ وَأَحْكَامِ الْعِلْمِ. وَهُوَ حَالُ صَحْوٍ وَتَمْيِيزٍ. وَكَأَنَّ الشَّيْخَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمَقَامِ تَغَارُ تَفْرِقَتُهُ مِنْ جَمْعِيَّتِهِ عَلَى اللَّهِ. فَنَفْسُهُ تَفِرُّ مِنَ الْجَمْعِيَّةِ عَلَى اللَّهِ إِلَى تَفَرُّقِ الْعِلْمِ. فَإِنَّهُ لَاأَشَقَّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ جَمْعِيَّتِهَا عَلَى اللَّهِ. فَهِيَ تَهْرُبُ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْحَالِ تَارَةً، وَإِلَى الْعَمَلِ تَارَةً، وَإِلَى الْعِلْمِ تَارَةً، هَذِهِ نُفُوسُ السَّالِكِينَ الصَّادِقِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الشَّأْنِ: فَنُفُوسُهُمْ تَفِرُّ مِنَ اللَّهِ إِلَى الشَّهَوَاتِ وَالرَّاحَاتِ. فَأَشَقُّ مَا عَلَى النُّفُوسِ: جَمْعِيَّتُهَا عَلَى اللَّهِ. وَهِيَ تُنَاشِدُ صَاحِبَهَا: أَنْ لَا يُوَصِّلَهَا إِلَيْهِ، وَأَنْ يَشْغَلَهَا بِمَا دُونَهُ. فَإِنَّ حَبْسَ النَّفْسِ عَلَى اللَّهِ شَدِيدٌ. وَأَشَدُّ مِنْهُ: حَبْسُهَا عَلَى أَوَامِرِهِ. وَحَبْسُهَا عَنْ نَوَاهِيهِ. فَهِيَ دَائِمًا تُرْضِيكَ بِالْعِلْمِ عَنِ الْعَمَلِ، وَبِالْعَمَلِ عَنِ الْحَالِ، وَبِالْحَالِ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ شَدَّ مِئْزَرَ سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ. وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَهُوَ قَاطِعٌ عَنْهُ. وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ- كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ-: دَرَجَةُ الْحَالِ. وَدَرَجَةُ الْعِلْمِ، وَدَرَجَةُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَالِ وَالْعِلْمِ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ الدَّرَجَاتِ: هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: وَالْمَعْنَى الثَّالِثُ، قَالُوا: الْوَقْتُ الْحَقُّ. أَرَادُوا بِهِ: اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي. لَكِنَّهُ هُوَ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا. لَا وُجُودًا مَحْضًا. وَهُوَ فَوْقُ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ. وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ، لَوْ دَامَ وَبَقِيَ. وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ، لَكِنَّهُ يَكْفِي مَؤُنَةَ الْمُعَامَلَةِ، وَيُصَفِّي عَيْنَ الْمُسَامَرَةِ. وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ. هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثُ مِنْ مَعَانِي الْوَقْتِ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهُ. وَأَصْعَبُ تَصَوُّرًا وَحُصُولًا. فَإِنَّ الْأَوَّلَ: وَقْتُ سُلُوكٍ يَتَلَوَّنُ. وَهَذَا وَقْتُ كَشْفٍ يَتَمَكَّنُ. وَلِذَلِكَ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْحَقِّ لِغَلَبَةِ حُكْمِهِ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهِ. فَلَا يُحِسُّ بِرَسْمِ الْوَقْتِ، بَلْ يَتَلَاشَى ذِكْرُ وَقْتِهِ مِنْ قَلْبِهِ، لِمَا قَهَرَهُ مِنْ نُورِ الْكَشْفِ. فَقَوْلُهُ: قَالُوا: الْوَقْتُ هُوَ الْحَقُّ. يَعْنِي: أَنَّ بَعْضَهُمْ أَطْلَقَ اسْمَ الْحَقِّ عَلَى الْوَقْتِ، ثُمَّ فَسَّرَ مُرَادَهُمْ بِذَلِكَ. وَأَنَّهُمْ عَنَوْا بِهِ اسْتِغْرَاقَ رَسْمِ الْوَقْتِ فِي وُجُودِ الْحَقِّ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّ السَّالِكَ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ لِلْحَقِّ: إِذَا اشْتَدَّ اسْتِغْرَاقُهُ فِي وَقْتٍ يَتَلَاشَى عَنْهُ وَقْتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ. وَتَقْرِيبُ هَذَا إِلَى الْفَهْمِ: أَنَّهُ إِذَا شَهِدَ اسْتِغْرَاقَ وَقْتِهِ الْحَاضِرِ فِي مَاهِيَّةِ الزَّمَانِ. فَقَدِ اسْتَغْرَقَ الزَّمَانُ رَسْمَ الْوَقْتِ إِلَى مَا هُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَانْغَمَرَ فِيهِ. كَمَا تَنْغَمِرُ الْقَطْرَةُ فِي الْبَحْرِ. ثُمَّ إِنَّ الزَّمَانَ- الْمَحْدُودَ الطَّرَفَيْنِ- يَسْتَغْرِقُ رَسْمُهُ فِي وُجُودِ الدَّهْرِ. وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ. ثُمَّ إِنَّ الدَّهْرَ يَسْتَغْرِقُ رَسْمَهُ فِي دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَذَلِكَ الدَّوَامُ: هُوَ صِفَةُ الرَّبِّ. فَهُنَاكَ يَضْمَحِلُّ الدَّهْرُ وَالزَّمَانُ وَالْوَقْتُ. وَلَا يَبْقَى لَهُ نِسْبَةٌ إِلَى دَوَامِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ أَلْبَتَّةَ. فَاضْمَحَلَّ الزَّمَانُ وَالدَّهْرُ وَالْوَقْتُ فِي الدَّوَامِ الْإِلَهِيِّ، كَمَا تَضْمَحِلُّ الْأَنْوَارُ الْمَخْلُوقَةُ فِي نُورِهِ، وَكَمَا يَضْمَحِلُّ عِلْمُ الْخَلْقِ فِي عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ فِي قُدْرَتِهِ، وَجَمَالُهُمْ فِي جَمَالِهِ، وَكَلَامُهُمْ فِي كَلَامِهِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَخْلُوقِ نِسْبَةٌ مَا إِلَى صِفَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ. وَالْقَوْمُ إِذَا أَطْلَقَ أَهْلُ الِاسْتِقَامَةِ مِنْهُمْ " مَا فِي الْوُجُودِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " مَا ثَمَّ مَوْجُودٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ إِلَّا اللَّهُ " أَوْ " هُنَاكَ: يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ. وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ " وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ، فَهَذَا مُرَادُهُمْ. لَا سِيَّمَا إِذَا حَصَلَ هَذَا الِاسْتِغْرَاقُ فِي الشُّهُودِ كَمَا هُوَ فِي الْوُجُودِ. وَغَلَبَ سُلْطَانُهُ عَلَى سُلْطَانِ الْعِلْمِ. وَكَانَ الْعِلْمُ مَغْمُورًا بِوَارِدِهِ. وَفِي قُوَّةِ التَّمْيِيزِ ضَعْفٌ. وَقَدْ تَوَارَى الْعِلْمُ بِالشُّهُودِ وَحَكَمَ الْحَالُ. فَهُنَاكَ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، {وَتَزِلُّ أَقْدَامٌ كَثِيرَةٌ إِلَى الْحَضِيضِ الْأَدْنَى. وَلَا رَيْبَ أَنَّ وُجُودَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَدَوَامَهُ يَسْتَغْرِقُ وُجُودَ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَوَقْتَهُ وَزَمَانَهُ. بِحَيْثُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ. وَظَنُّوا أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ أَلْبَتَّةَ. وَغَرَّهُمْ كَلِمَاتٌ مُشْتَبِهَاتٌ جَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الطَّائِفَةِ. فَجَعَلُوهَا عُمْدَةً لِكُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ. وَظَنُّوا أَنَّ السَّالِكِينَ سَيَرْجِعُونَ إِلَيْهِمْ، وَتَصِيرُ طَرِيقَةُ النَّاسِ وَاحِدَةً {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. قَوْلُهُ: وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْبِقُ عَلَى هَذَا الِاسْمِ عِنْدِي. يُرِيدُ: أَنَّ " الْحَقَّ " سَابِقٌ عَلَى الِاسْمِ الَّذِي هُوَ " الْوَقْتُ " أَيْ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يُسَمَّى بِالْوَقْتِ. فَلَا يَنْبَغِي إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ. لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ حَادِثَةٌ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ اسْمٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ، لِحِينِ تَتَلَاشَى فِيهِ الرُّسُومُ كَشْفًا لَا وُجُودًا مَحْضًا. تَلَاشِي الرُّسُومِ اضْمِحْلَالُهَا وَفَنَاؤُهَا. وَالرُّسُومُ عِنْدَهُمْ: مَا سِوَى اللَّهِ. وَقَدْ صَرَّحَ الشَّيْخُ: أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَلَاشَى فِي وُجُودِ الْعَبْدِ الْكَشْفِيِّ. بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِيهِ سَعَةٌ لِلْإِحْسَاسِ بِهَا، لِمَا اسْتَغْرَقَهُ مِنَ الْكَشْفِ. فَهَذِهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ مِنَ الْقَوْمِ. وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ، أَهْلُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَعِنْدَهُمْ: أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ مُتَلَاشِيَةً فِي عَيْنِ وُجُودِ الْحَقِّ، بَلْ وُجُودُهَا هُوَ نَفْسُ وُجُودِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْحِسُّ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْوُجُودَيْنِ. فَلَمَّا غَابَ عَنْ حِسِّهِ بِكَشْفِهِ، تَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهَا هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْحَقِّ. وَلَكِنَّ الشَّيْخَ كَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْكَشْفِ وَالْوُجُودِ عَنِ الْمَقَامَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي كِتَابِهِ. وَالْكَشْفُ هُوَ دُونَ الْوُجُودِ عِنْدَهُ. فَإِنَّ الْكَشْفَ يَكُونُ مَعَ بَقَاءِ بَعْضِ رُسُومِ صَاحِبِهِ. فَلَيْسَ مَعَهُ اسْتِغْرَاقٌ فِي الْفَنَاءِ. وَالْوُجُودُ لَا يَكُونُ مَعَهُ رَسْمٌ بَاقٍ. وَلِذَلِكَ قَالَ: لَا وُجُودًا مَحْضًا، فَإِنَّ الْوُجُودَ الْمَحْضَ عِنْدَهُ: يُفْنِي الرُّسُومَ. وَبِكُلِّ حَالٍ: فَهُوَ يُفْنِيهَا مِنْ وُجُودِ الْوَاجِدِ، لَا يُفْنِيهَا فِي الْخَارِجِ. وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ الْوَاصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقَامِ يَصِيرُ لَهُ وُجُودٌ آخَرُ، غَيْرُ وُجُودِهِ الطَّبِيعِيِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ. وَيَصِيرُ لَهُ نَشْأَةٌ أُخْرَى لِقَلْبِهِ وَرُوحِهِ، نِسْبَةُ النَّشْأَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ إِلَيْهَا كَنِسْبَةِ النَّشْأَةِ فِي بَطْنِ الْأُمِّ إِلَى هَذِهِ النَّشْأَةِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَالَمِ، وَكَنِسْبَةِ هَذِهِ النَّشْأَةِ إِلَى النَّشْأَةِ الْأُخْرَى. فَلِلْعَبْدِ أَرْبَعُ نَشْآتٍ: نَشْأَةٌ فِي الرَّحِمِ، حَيْثُ لَا بَصَرَ يُدْرِكُهُ. وَلَا يَدَ تَنَالُهُ. وَنَشْأَةٌ فِي الدُّنْيَا. وَنَشْأَةٌ فِي الْبَرْزَخِ. وَنَشْأَةٌ فِي الْمَعَادِ الثَّانِي. وَكُلُّ نَشْأَةٍ أَعْظَمُ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا. وَهَذِهِ النَّشْأَةُ لِلرُّوحِ وَالْقَلْبِ أَصْلًا، وَلِلْبَدَنِ تَبَعًا. فَلِلرُّوحِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَشْأَتَانِ. إِحْدَاهُمَا: النَّشْأَةُ الطَّبِيعِيَّةُ الْمُشْتَرَكَةُ. وَالثَّانِيَةُ: نَشْأَةٌ قَلْبِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ، يُولَدُ بِهَا قَلْبُهُ، وَيَنْفَصِلُ عَنْ مَشِيمَةِ طَبْعِهِ، كَمَا وُلِدَ بَدَنُهُ وَانْفَصَلَ عَنْ مَشِيمَةِ الْبَطْنِ. وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهَذَا فَلْيَضْرِبْ عَنْ هَذَا صَفْحًا، وَلْيَشْتَغِلْ بِغَيْرِهِ. وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: إِنَّكُمْ لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ حَتَّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ: هِيَ وِلَادَةُ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ مِنَ الْأَبْدَانِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ عَالِمِ الطَّبِيعَةِ، كَمَا وُلِدَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْبَدَنِ وَخَرَجَتْ مِنْهُ. وَالْوِلَادَةُ الْأُخْرَى: هِيَ الْوِلَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فَوْقَ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ. يَعْنِي: أَنَّ هَذَا الْكَشْفَ الَّذِي تَلَاشَتْ فِيهِ الرُّسُومُ: فَوْقَ مَنْزِلَتَيِ الْبَرْقِ وَالْوَجْدِ، فَإِنَّهُ أَثْبَتُ وَأَدْوَمُ، وَالْوُجُودُ فَوْقَهُ. لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِالدَّوَامِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ يُشَارِفُ مَقَامَ الْجَمْعِ لَوْ دَامَ. أَيْ لَوْ دَامَ هَذَا الْوَقْتُ لَشَارَفَ مَقَامَ الْجَمْعِ وَهُوَ ذَهَابُ شُعُورِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، شُغْلًا بِهِ عَنْ غَيْرِهِ. فَهُوَ جَمْعٌ فِي الشُّهُودِ. وَعِنْدَ الْمَلَاحِدَةِ: هُوَ جَمْعٌ فِي الْوُجُودِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنَّهُ لَوْ دَاوَمَ الْوَقْتُ بِهَذَا الْمَعْنَى الثَّالِثِ: لَشَارَفَ حَضْرَةَ الْجَمْعِ. لَكِنَّهُ لَا يَدُومُ. قَوْلُهُ: وَلَا يَبْلُغُ وَادِيَ الْوُجُودِ يَعْنِي: أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ لَا يَبْلُغُ السَّالِكُ فِيهِ وَادِيَ الْوُجُودِ حَتَّى يَقْطَعَهُ. وَوَادِي الْوُجُودِ: هُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ. قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ يَلْقَى مُؤْنَةَ الْمُعَامَلَةِ. يَعْنِي: أَنَّ الْوَقْتَ الْمَذْكُورَ- وَهُوَ الْكَشْفُ الْمُشَارِفُ لِحَضْرَةِ الْجَمْعِ- يُخَفِّفُ عَنِ الْعَامِلِ أَثْقَالَ الْمُعَامَلَةِ، مَعَ قِيَامِهِ بِهَا أَتَمَّ الْقِيَامِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ هِيَ الْحَامِلَةَ لَهُ. فَإِنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ عَلَى الْخَبَرِ. فَصَارَ يَعْمَلُ عَلَى الْعِيَانِ. هَذَا مُرَادُ الشَّيْخِ. وَعِنْدَ الْمُلْحِدِ: أَنَّهُ يَفْنَى عَنِ الْمُعَامَلَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيُرَدُّ صَاحِبُهُ إِلَى الْمُعَامَلَاتِ الْقَلْبِيَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ إِشْبَاعُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ " وَيُصَفِّي عَنِ الْمُسَامَرَةِ " الْمُسَامَرَةُ: عِنْدَ الْقَوْمِ هِيَ الْخِطَابُ الْقَلْبِيُّ الرُّوحِيُّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّ تَسْمِيَتَهَا بِالْمُنَاجَاةِ أَوْلَى. فَهَذَا الْكَشْفُ يَخْلُصُ عَنِ الْمُسَامَرَةِ مِنْ ذِكْرِ غَيْرِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَمُنَاجَاتِهِ. قَوْلُهُ: وَيَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ أَيْ صَاحِبُ مَقَامِ هَذَا الْوَقْتِ الْخَاصِّ: يَشُمُّ رَوَائِحَ الْوُجُودِ. وَهُوَ حَضْرَةُ الْجَمْعِ. فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَهَا بِالْجَمْعِ وَالْوُجُودِ. وَيَعْنُونَ بِذَلِكَ: ظُهُورَ وُجُودِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ. وَفَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ. وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ فَنَاءَ وُجُودِ مَا سِوَاهُ بِأَحَدِ اعْتَبَارَيْنِ: إِمَّا فَنَاؤُهُ مِنْ شُهُودِ الْعَبْدِ فَلَا يَشْهَدُهُ، وَإِمَّا اضْمِحْلَالُهُ وَتَلَاشِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُودِ الرَّبِّ. وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ. فَهُوَ إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
وَمِنْهَا مَنْزِلَةُ الصَّفَاءِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ: بَابُ الصَّفَاءِ. قَالَ اللَّهُ عز وجل: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} الصَّفَاءُ اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَدَرِ. وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ سُقُوطُ التَّلْوِينِ. أَمَّا الِاسْتِشْهَادُ بِالْآيَةِ: فَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُصْطَفَى مُفْتَعَلٌ مِنَ الصَّفْوَةِ. وَهِيَ خُلَاصَةُ الشَّيْءِ، وَتَصْفِيَتُهُ مِمَّا يَشُوبُهُ. وَمِنْهُ: اصْطَفَى الشَّيْءَ لِنَفْسِهِ. أَيْ خَلَّصَهُ مِنْ شَوْبِ شَرِكَةِ غَيْرِهِ لَهُ فِيهِ. وَمِنْهُ الصَّفِيُّ وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي كَانَ يَصْطَفِيهِ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِنَفْسِهِ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَمِنْهُ: الشَّيْءُ الصَّافِي. وَهُوَ الْخَالِصُ مِنْ كَدَرِ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ: الصَّفَاءُ: اسْمٌ لِلْبَرَاءَةِ مِنَ الْكَدَرِ. الْبَرَاءَةُ: هِيَ الْخَلَاصُ. وَالْكَدَرُ امْتِزَاجُ الطَّيِّبِ بِالْخَبِيثِ. قَوْلُهُ: وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ: سُقُوطُ التَّلْوِينِ. التَّلْوِينُ هُوَ التَّرَدُّدُ وَالتَّذَبْذُبُ، كَمَا قِيلَ: كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنُ *** تَرْكُ هَذَا بِكَ أَجْمَلُ
قَالَ: وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ. الدَّرَجَةُ الْأُولَى: صَفَاءُ عِلْمٍ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَيُبَصِّرُ غَايَةَ الْجِدِّ. وَيُصَحِّحُ هِمَّةَ الْقَاصِدِ. ذَكَرَ الشَّيْخُ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ. الْفَائِدَةُ الْأُولَى: عِلْمٌ يُهَذِّبُ لِسُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا الْعِلْمُ الصَّافِي- الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ- هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ الْجُنَيْدُ يَقُولُ دَائِمًا: عِلْمُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَتَفَقَّهْ: لَا يُقْتَدَى بِهِ. وَقَالَ غَيْرُهُ مِنَ الْعَارِفِينَ: كُلُّ حَقِيقَةٍ لَا تَتْبَعُهَا شَرِيعَةٌ فَهِيَ كُفْرٌ. وَقَالَ الْجُنَيْدُ: عِلْمُنَا هَذَا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ بِقَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ الْقَوْمِ. فَلَا أَقْبَلُهَا إِلَّا بِشَاهِدَيْ عَدْلٍ، مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَقَالَ النَّصْرَابَادِيُّ: أَصْلُ هَذَا الْمَذْهَبِ: مُلَازَمَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَتَرْكُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِالسَّلَفِ، وَتَرْكُ مَا أَحْدَثَهُ الْآخَرُونَ. وَالْإِقَامَةُ عَلَى مَا سَلَكَهُ الْأَوَّلُونَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ ذَلِكَ. فَهَذَا الْعِلْمُ الصَّافِي، الْمُتَلَقَّى مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ: يُهَذِّبُ صَاحِبَهُ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ. وَحَقِيقَتُهَا: التَّأَدُّبُ بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَتَحْكِيمُهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا. وَالْوُقُوفُ مَعَهُ حَيْثُ وَقَفَ بِكَ. وَالْمَسِيرُ مَعَهُ حَيْثُ سَارَ بِكَ. بِحَيْثُ تَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ شَيْخِكَ الَّذِي قَدْ أَلْقَيْتَ إِلَيْهِ أَمْرَكَ كُلَّهُ سِرَّهُ وَظَاهِرَهُ، وَاقْتَدَيْتَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ. وَوَقَفْتَ مَعَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ. فَلَا تُخَالِفُهُ أَلْبَتَّةَ. فَتَجْعَلُ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَكَ شَيْخًا، وَإِمَامًا وَقُدْوَةً وَحَاكِمًا، وَتُعَلِّقُ قَلْبَكَ بِقَلْبِهِ الْكَرِيمِ، وَرُوحَانِيَّتَكَ بِرُوحَانِيَّتِهِ، كَمَا يُعَلِّقُ الْمُرِيدُ رُوحَانِيَّتَهُ بِرُوحَانِيَّةِ شَيْخِهِ. فَتُجِيبُهُ إِذَا دَعَاكَ. وَتَقِفُ مَعَهُ إِذَا اسْتَوْقَفَكَ. وَتَسِيرُ إِذَا سَارَ بِكَ. وَتُقِيلُ إِذَا قَالَ، وَتَنْزِلُ إِذَا نَزَلَ. وَتَغْضَبُ لِغَضَبِهِ. وَتَرْضَى لِرِضَاهُ. وَإِذَا أَخْبَرَكَ عَنْ شَيْءٍ أَنْزَلْتَهُ مَنْزِلَةَ مَا تَرَاهُ بِعَيْنِكَ. وَإِذَا أَخْبَرَكَ عَنِ اللَّهِ بِخَبَرٍ أَنْزَلْتَهُ مَنْزِلَةَ مَا تَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ بِأُذُنِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَتَجْعَلُ الرَّسُولَ شَيْخَكَ وَأُسْتَاذَكَ، وَمُعَلِّمَكَ وَمُرَبِّيكَ وَمُؤَدِّبَكَ. وَتَسْقُطُ الْوَسَائِطَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِلَّا فِي التَّبْلِيغِ. كَمَا تَسْقُطُ الْوَسَائِلُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْمُرْسَلِ فِي الْعُبُودِيَّةِ. وَلَا تَثْبُتُ وَسَاطَةٌ إِلَّا فِي وُصُولِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَيْكَ. وَهَذَانَ التَّجْرِيدَانِ: هُمَا حَقِيقَةُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَاللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْمَأْلُوهُ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ سِوَاهُ، وَرَسُولُهُ: الْمُطَاعُ الْمُتَّبَعُ، الْمُهْتَدَى بِهِ، الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الطَّاعَةَ سِوَاهُ. وَمَنْ سِوَاهُ: فَإِنَّمَا يُطَاعُ إِذَا أَمَرَ الرَّسُولُ بِطَاعَتِهِ. فَيُطَاعُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ. وَبِالْجُمْلَةِ: فَالطَّرِيقُ مَسْدُودَةٌ إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى آثَارَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاقْتَدَى بِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ. فَلَا يَتَعَنَّى السَّالِكُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ. فَلَيْسَ حَظُّهُ مِنْ سُلُوكِهِ إِلَّا التَّعَبَ، وَأَعْمَالُهُ {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. وَلَا يَتَعَنَّى السَّالِكُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ. فَإِنَّهُ وَاصِلٌ وَلَوْ زَحَفَ زَحْفًا. فَأَتْبَاعُ الرَّسُولِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِذَا قَعَدَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، قَامَتْ بِهِمْ عَزَائِمُهُمْ وَهِمَمُهُمْ وَمُتَابَعَتُهُمْ لِنَبِيِّهِمْ. كَمَا قِيلَ: مَنْ لِي بِمِثْلِ سَيْرِكَ الْمُدَلَّلِ *** تَمْشِي رُوَيْدًا وَتَجِي فِي الْأَوَّلِ وَالْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَرِيقِهِ، إِذَا قَامَتْ بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ وَاجْتِهَادَاتُهُمْ: قَعَدَ بِهِمْ عُدُولُهُمْ عَنْ طَرِيقِهِ. فَهُمْ فِي السُّرَى لَمْ يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ *** وَمَا ظَعَنُوا فِي السَّيْرِ عَنْهُ وَقَدْ كَلُّوا قَوْلُهُ " وَيُبَصِّرُ غَايَةَ الْجِدِّ " الْجِدُّ: الِاجْتِهَادُ وَالتَّشْمِيرُ، وَالْغَايَةُ: النِّهَايَةُ. يُرِيدُ: أَنَّ صَفَاءَ الْعِلْمِ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّشْمِيرِ. فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّالِكِينَ- بَلْ أَكْثَرَهُمْ- سَالِكٌ بِجِدِّهِ وَاجْتِهَادِهِ، غَيْرُ مُنْتَبِهٍ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَأَضْرِبُ لَكَ فِي هَذَا مَثَلًا حَسَنًا جِدًّا، وَهُوَ: أَنَّ قَوْمًا قَدِمُوا مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ عَلَيْهِمْ أَثَرُ النَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ، وَالْمَلَابِسُ السَّنِيَّةُ، وَالْهَيْئَةُ الْعَجِيبَةُ. فَعَجِبَ النَّاسُ لَهُمْ. فَسَأَلُوهُمْ عَنْ حَالِهِمْ؟ فَقَالُوا: بِلَادُنَا مِنْ أَحْسَنِ الْبِلَادِ. وَأَجْمَعِهَا لِسَائِرِ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ. وَأَرْخَاهَا، وَأَكْثَرِهَا مِيَاهًا، وَأَصَحِّهَا هَوَاءً، وَأَكْثَرِهَا فَاكِهَةً، وَأَعْظَمِهَا اعْتِدَالًا، وَأَهْلُهَا كَذَلِكَ أَحْسَنُ النَّاسِ صُوَرًا وَأَبْشَارًا. وَمَعَ هَذَا، فَمَلِكُهَا لَا يَنَالُهُ الْوَصْفُ جَمَالًا وَكَمَالًا، وَإِحْسَانًا، وَعِلْمًا وَحِلْمًا، وَجُودًا، وَرَحْمَةً لِلرَّعِيَّةِ، وَقُرْبًا مِنْهُمْ. وَلَهُ الْهَيْبَةُ وَالسَّطْوَةُ عَلَى سَائِرِ مُلُوكِ الْأَطْرَافِ. فَلَا يَطْمَعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي مُقَاوَمَتِهِ وَمُحَارَبَتِهِ. فَأَهْلُ بَلَدِهِ فِي أَمَانٍ مِنْ عَدُوِّهِمْ. لَا يَحِلُّ الْخَوْفُ بِسَاحَتِهِمْ. وَمَعَ هَذَا: فَلَهُ أَوْقَاتٌ يَبْرُزُ فِيهَا لِرَعِيَّتِهِ، وَيُسَهِّلُ لَهُمُ الدُّخُولَ عَلَيْهِ، وَيَرْفَعُ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. فَإِذَا وَقَعَتْ أَبْصَارُهُمْ عَلَيْهِ: تَلَاشَى عِنْدَهُمْ كُلُّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَاضْمَحَلَّ، حَتَّى لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهُ. فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ: أَقْبَلَ عَلَيْهِ سَائِرُ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ. وَنَحْنُ رُسُلُهُ إِلَى أَهْلِ الْبِلَادِ، نَدْعُوهُمْ إِلَى حَضْرَتِهِ. وَهَذِهِ كُتُبُهُ إِلَى النَّاسِ. وَمَعَنَا مِنَ الشُّهُودِ مَا يُزِيلُ سُوءَ الظَّنِّ بِنَا. وَيَدْفَعُ اتِّهَامَنَا بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذَلِكَ، وَشَاهَدُوا أَحْوَالَ الرُّسُلِ: انْقَسَمُوا أَقْسَامًا. فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: لَا نُفَارِقُ أَوْطَانَنَا، وَلَا نَخْرُجُ مِنْ دِيَارِنَا، وَلَا نَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ، وَنَتْرُكُ مَا أَلِفْنَاهُ مِنْ عَيْشِنَا وَمَنَازِلِنَا، وَمُفَارَقَةِ آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا، وَإِخْوَانِنَا لِأَمْرٍ وُعِدْنَا بِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ الْجَهْدِ وَالْمَشَقَّةِ. فَكَيْفَ نَنْتَقِلُ عَنْهُ؟ وَرَأَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ مُفَارَقَتَهَا لِأَوْطَانِهَا وَبِلَادِهَا: كَمُفَارَقَةِ أَنْفُسِهَا لِأَبْدَانِهَا. فَإِنَّ النَّفْسَ- لِشِدَّةِ إِلْفِهَا لِلْبَدَنِ- أَكْرَهُ مَا إِلَيْهَا مُفَارَقَتُهُ. وَلَوْ فَارَقَتْهُ إِلَى النَّعِيمِ الْمُقِيمِ. فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ غَلَبَ عَلَيْهَا دَاعِي الْحِسِّ وَالطَّبْعِ عَلَى دَاعِي الْعَقْلِ وَالرُّشْدِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: لَمَّا رَأَتْ حَالَ الرُّسُلِ، وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَهْجَةِوَحُسْنِ الْحَالِ، وَعَلِمُوا صِدْقَهُمْ: تَأَهَّبُوا لِلسَّيْرِ إِلَى بِلَادِ الْمَلِكِ. فَأَخَذُوا فِي الْمَسِيرِ. فَعَارَضَهُمْ أَهْلُوهُمْ، وَأَصْحَابُهُمْ، وَعَشَائِرُهُمْ مِنَ الْقَاعِدِينَ. وَعَارَضَهُمْ إِلْفُهُمْ مَسَاكِنَهُمْ وَدُورَهُمْ وَبَسَاتِينَهُمْ. فَجَعَلُوا يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى. فَإِذَا تَذَكَّرُوا طِيبَ بِلَادِ الْمَلِكِ وَمَا فِيهَا مِنْ سَلْوَةِ الْعَيْشِ: تَقَدَّمُوا نَحْوَهَا. وَإِذَا عَارَضَهُمْ مَا أَلِفُوهُ وَاعْتَادُوهُ مِنْ ظِلَالِ بِلَادِهِمْ وَعَيْشِهَا، وَصُحْبَةِ أَهْلِهِمْ وَأَصْحَابِهِمْ: تَأَخَّرُوا عَنِ الْمَسِيرِ، وَالْتَفَتُوا إِلَيْهِمْ. فَهُمْ دَائِمًا بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ وَالْجَاذِبَيْنِ، إِلَى أَنْ يَغْلِبَ أَحَدُهُمَا وَيَقْوَى عَلَى الْآخَرِ. فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ. وَالطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ: رَكِبَتْ ظُهُورَ عَزَائِمِهَا، وَرَأَتْ أَنَّ بِلَادَ الْمَلِكِ أَوْلَى بِهَا. فَوَطَّنَتْ أَنْفُسَهَا عَلَى قَصْدِهَا. وَلَمْ يَثْنِهَا لَوْمُ اللُّوَّامِ. لَكِنْ فِي سَيْرِهَا بُطْءٌ بِحَسَبِ ضَعْفِ مَا كُشِفَ لَهَا مِنْ أَحْوَالِ تِلْكَ الْبِلَادِ وَحَالِ الْمَلِكِ. وَالطَّائِفَةُ الرَّابِعَةُ: جَدَّتْ فِي السَّيْرِ وَوَاصَلَتْهُ. فَسَارَتْ سَيْرًا حَثِيثًا. فَهُمْ كَمَا قِيلَ: وَرَكْبٍ سَرَوْا وَاللَّيْلُ مُرْخٍ سُدُولَهُ *** عَلَى كُلِّ مُغْبَرِّ الْمَطَالِعِ قَاتِمِ حَدَوْا عَزَمَاتٍ ضَاعَتِ الْأَرْضُ بَيْنَهَا *** فَصَارَ سُرَاهُمْ فِي ظُهُورِ الْعَزَائِمِ تُرِيهِمْ نُجُومُ اللَّيْلِ مَا يَطْلُبُونَهُ *** عَلَى عَاتِقِ الشِّعْرَى وَهَامِ النَّعَائِمِ فَهَؤُلَاءِ هِمَمُهُمْ مَصْرُوفَةٌ إِلَى السَّيْرِ. وَقُوَاهُمْ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَثْنِيَةٍ مِنْهُمْ إِلَى الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ، وَالْغَايَةِ الْعُلْيَا. وَالطَّائِفَةُ الْخَامِسَةُ: أَخَذُوا فِي الْجِدِّ فِي الْمَسِيرِ. وَهِمَّتُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْغَايَةِ، فَهُمْ فِي سَيْرِهِمْ نَاظِرُونَ إِلَى الْمَقْصُودِ بِالْمَسِيرِ. فَكَأَنَّهُمْ يُشَاهِدُونَهُ مِنْ بُعْدٍ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى نَفْسِهِ وَإِلَى بِلَادِهِ. فَهُمْ عَامِلُونَ عَلَى هَذَا الشَّاهِدِ الَّذِي قَامَ بِقُلُوبِهِمْ. وَعَمَلُ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ شَاهِدِهِ. فَمَنْ شَاهَدَ الْمَقْصُودَ بِالْعَمَلِ فِي عِلْمِهِ كَانَ نُصْحُهُ فِيهِ، وَإِخْلَاصُهُ وَتَحْسِينُهُ، وَبَذْلُ الْجُهْدِ فِيهِ أَتَمَّ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ وَلَمْ يُلَاحِظْهُ. وَلَمْ يَجِدْ مِنْ مَسِّ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ مَا يَجِدُهُ الْغَائِبُ، وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ. فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِمَلِكٍ بِحَضْرَتِهِ، وَهُوَ يُشَاهِدُهُ: لَيْسَ حَالُهُ كَحَالِ مَنْ عَمِلَ فِي غَيْبَتِهِ وَبُعْدِهِ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ وُصُولَهُ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ " وَيُصَحِّحُ هِمَّةَ الْقَاصِدِ " أَيْ وَيُصَحِّحُ لَهُ صَفَاءُ هَذَا الْعِلْمِ هِمَّتَهُ، وَمَتَى صَحَّتِ الْهِمَّةُ عَلَتْ وَارْتَفَعَتْ. فَإِنَّ سُقُوطَهَا وَدَنَاءَتَهَا مِنْ عِلَّتِهَا وَسَقَمِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ كَالنَّارِ تَطْلُبُ الصُّعُودَ وَالِارْتِفَاعَ مَا لَمْ تُمْنَعْ. وَأَعْلَى الْهِمَمِ: هِمَّةٌ اتَّصَلَتْ بِالْحَقِّ سُبْحَانَهُ طَلَبًا وَقَصْدًا. وَأَوْصَلَتِ الْخَلْقَ إِلَيْهِ دَعْوَةً وَنُصْحًا. وَهَذِهِ هِمَّةُ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ. وَصِحَّتُهَا: بِتَمْيِيزِهَا مِنِ انْقِسَامِ طَلَبِهَا وَانْقِسَامِ مَطْلُوبِهَا وَانْقِسَامِ طَرِيقِهَا. بَلْ تَوَحَّدَ مَطْلُوبُهَا بِالْإِخْلَاصِ، وَطَلَبُهَا بِالصِّدْقِ، وَطَرِيقُهَا بِالسُّلُوكِ خَلْفَ الدَّلِيلِ الَّذِي نَصَبَهُ اللَّهُ دَلِيلًا. لَا مَنْ نَصَبَهُ هُوَ دَلِيلًا لِنَفْسِهِ. وَلِلَّهِ الْهِمَمُ! مَا أَعْجَبَ شَأْنَهَا، وَأَشَدَّ تَفَاوُتَهَا. فَهِمَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ. وَهِمَّةٌ حَائِمَةٌ حَوْلَ الْأَنْتَانِ وَالْحُشِّ. وَالْعَامَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ. وَالْخَاصَّةُ تَقُولُ: قِيمَةُ الْمَرْءِ مَا يَطْلُبُهُ. وَخَاصَّةُ الْخَاصَّةِ تَقُولُ: هِمَّةُ الْمَرْءِ إِلَى مَطْلُوبِهِ. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ مَرَاتِبَ الْهِمَمِ، فَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-- وَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَلْنِي- فَقَالَ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. وَكَانَ غَيْرُهُ يَسْأَلُهُ مَا يَمْلَأُ بَطْنَهُ، أَوْ يُوَارِي جِلْدَهُ. وَانْظُرْ إِلَى هِمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِ مَفَاتِيحُ كُنُوزِ الْأَرْضِ- فَأَبَاهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا لِأَنْفَقَهَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ تَعَالَى. فَأَبَتْ لَهُ تِلْكَ الْهِمَّةُ الْعَالِيَةُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّهِ وَمَحَابِّهِ. وَعُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِالْمُلْكِ، فَأَبَاهُ. وَاخْتَارَ التَّصَرُّفَ بِالْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِقُ هَذِهِ الْهِمَّةِ، وَخَالِقُ نَفْسٍ تَحْمِلُهَا، وَخَالِقُ هِمَمٍ لَا تَعْدُو هِمَمَ أَخَسِّ الْحَيَوَانَاتِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: صَفَاءُ حَالٍ، يُشَاهَدُ بِهِ شَوَاهِدُ التَّحْقِيقِ. وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ. وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ. هَذِهِ الدَّرَجَةُ إِنَّمَا كَانَتْ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا هِمَّةُ حَالٍ. وَالْحَالُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ، وَلَا يَصْفُو حَالٌ إِلَّا بِصَفَاءِ الْعِلْمِ الْمُثْمِرِ لَهُ. وَعَلَى حَسَبِ شَوْبِ الْعِلْمِ يَكُونُ شَوْبُ الْحَالِ. وَإِذَا صَفَا الْحَالُ: شَاهَدَ الْعَبْدُ- بِصَفَائِهِ- آثَارَ الْحَقَائِقِ. وَهِيَ الشَّوَاهِدُ فِيهِ، وَفِي غَيْرِهِ، وَعَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِهِ. وَوَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. وَإِذَا تَمَكَّنَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ: نَسِيَ الْكَوْنَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمُكَوِّنَاتِ. وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ تَخْتَصُّ بِصَفَاءِ الْحَالِ كَمَا اخْتَصَّتِ الْأُولَى بِصَفَاءِ الْعِلْمِ. وَالْحَالُ هُوَ تَكَيُّفُ الْقَلْبِ وَانْصِبَاغُهُ بِحُكْمِ الْوَارِدَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا، وَالْحَالُ يَدْعُو صَاحِبَهُ إِلَى الْمَقَامِ الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الْوَارِدُ، كَمَا تَدْعُوهُ رَائِحَةُ الْبُسْتَانِ الطَّيِّبَةُ إِلَى دُخُولِهِ وَالْمَقَامِ فِيهِ. فَإِذَا كَانَ الْوَارِدُ مِنْ حَضْرَةٍ صَحِيحَةٍ- وَهِيَ حَضْرَةُ الْحَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ، لَا الْحَقِيقَةِ الْخَيَالِيَّةِ الذِّهْنِيَّةِ- شَاهَدَ السَّالِكُ بِصَفَائِهِ شَوَاهِدَ التَّحْقِيقِ، وَهِيَ عَلَامَاتُهُ: وَالتَّحْقِيقُ هُوَ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ، وَتَأَثُّرُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ بِهَا، وَالْحَقِيقَةُ مَا تَعَلَّقَ بِالْحَقِّ الْمُبِينِ سُبْحَانَهُ. فَاللَّهُ هُوَ الْحَقُّ. وَالْحَقِيقَةُ مَا نُسِبَ إِلَيْهِ وَتَعَلَّقَ بِهِ. وَالتَّحْقِيقُ تَأَثُّرُ الْقَلْبِ بِآثَارِ الْحَقِيقَةِ. وَلِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ، وَلِكُلِّ حَقِيقَةٍ تَحْقِيقٌ يَقُومُ بِمُشَاهَدَةِ الْحَقِيقَةِ. قَوْلُهُ " وَيُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ " الْمُنَاجَاةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ النَّجْوَى. وَهُوَ الْخِطَابُ فِي سِرِّ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ. وَالشَّيْخُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ. أَحَدُهَا: مُشَاهَدَةُ شَوَاهِدِ التَّحْقِيقِ. الثَّانِي: ذَوْقُ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ. فَإِنَّهُ مَتَى صَفَا لَهُ حَالُهُ مِنَ الشَّوَائِبِ، خَلُصَتْ لَهُ حَلَاوَتُهُ مِنْ مَرَارَةِ الْأَكْدَارِ. فَذَاقَ تِلْكَ الْحَلَاوَةَ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ. فَلَوْ كَانَ الْحَالُ مَشُوبًا مُكَدَّرًا لَمْ يَجِدْ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ. وَالْحَالُ الْمُسْتَنِدَةُ إِلَى وَارِدٍ تُذَاقُ بِهِ حَلَاوَةُ الْمُنَاجَاةِ: هُوَ مِنْ حَضْرَةِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ مِنْ ظُهُورِهَا وَكَشْفِ مَعَانِيهَا. فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ اسْمُ الْوَدُودِ- مَثَلًا- وَكُشِفَ لَهُ عَنْ مَعَانِي هَذَا الِاسْمِ، وَلُطْفِهِ، وَتَعَلُّقِهِ بِظَاهِرِ الْعَبْدِ وَبَاطِنِهِ: كَانَ الْحَالُ الْحَاصِلُ لَهُ مِنْ حَضْرَةِ هَذَا الِاسْمِ مُنَاسِبًا لَهُ. فَكَانَ حَالَ اشْتِغَالِ حُبٍّ وَشَوْقٍ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاةٍ، لَا أَحْلَى مِنْهَا وَلَا أَطْيَبَ، بِحَسَبِ اسْتِغْرَاقِهِ فِي شُهُودِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ. وَحَظِّهِ مِنْ أَثَرِهِ. فَإِنَّ الْوَدُودَ- وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْمَوْدُودِ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: الْوَدُودُ الْحَبِيبُ- وَاسْتِغْرَاقُ الْعَبْدِ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي تَدْعُو الْعَبْدَ إِلَى حُبِّ الْمَوْصُوفِ بِهَا: أَثْمَرَ لَهُ صَفَاءَ عِلْمِهِ بِهَا، وَصَفَاءَ حَالِهِ فِي تَعَبُّدِهِ بِمُقْتَضَاهَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ وَغَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ اسْمُ فَاعِلٍ بِمَعْنَى الْوَادِّ وَهُوَ الْمُحِبُّ: أَثْمَرَتْ لَهُ مُطَالَعَةُ ذَلِكَ حَالًا تُنَاسِبُهُ. فَإِنَّهُ إِذَا شَاهَدَ بِقَلْبِهِ غَنِيًّا كَرِيمًا جَوَادًا، عَزِيزًا قَادِرًا، كُلُّ أَحَدٍ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ. وَهُوَ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ. وَهُوَ- مَعَ ذَلِكَ- يَوَدُّ عِبَادَهُ وَيُحِبُّهُمْ، وَيَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ بِإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ-: كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا الشُّهُودِ حَالَةٌ صَافِيَةٌ خَالِصَةٌ مِنَ الشَّوَائِبِ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ. فَصَفَاءُ الْحَالِ بِحَسَبِ صَفَاءِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَخُلُوصِهَا مِنْ دَمِ التَّعْطِيلِ وَفَرْثِ التَّمْثِيلِ. فَتَخْرُجُ الْمَعْرِفَةُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ فِطْرَةً خَالِصَةً سَائِغَةً لِلْعَارِفِينَ. كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ. وَالْأَمْرُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ " وَيُنْسَى بِهِ الْكَوْنُ " أَيْ يُنْسَى الْكَوْنُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى قَلْبِهِ مِنِ اشْتِغَالِهِ بِهَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْكَوْنِ: الْمَخْلُوقَاتُ. أَيْ يَشْتَغِلُ بِالْحَقِّ عَنِ الْخَلْقِ.
قَالَ: الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: صَفَاءُ اتِّصَالٍ. يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَيُغْرِقُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ، وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ. فِي هَذَا اللَّفْظِ قَلَقٌ وَسُوءُ تَعْبِيرٍ. يَجْبُرُهُ حُسْنُ حَالِ صَاحِبِهِ وَصِدْقِهِ، وَتَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَكِنْ أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ الْكَمَالُ إِلَّا لَهُ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ بَيْنَ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ التَّمَكُّنِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا. وَانْظُرْ إِلَى غَلَبَةِ الْحَالِ عَلَى الْكَلِيمِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا شَاهَدَ آثَارَ التَّجَلِّي الْإِلَهِيِّ عَلَى الْجَبَلِ، كَيْفَ خَرَّ صَعِقًا؟ وَصَاحِبُ التَّمَكُّنِ- صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ- لَمَّا أُسْرِيَ بِهِ وَرَأَى مَا رَأَى: لَمْ يُصْعَقْ وَلَمْ يَخِرَّ، بَلْ ثَبَتَ فُؤَادُهُ وَبَصَرُهُ. وَمُرَادُ الْقَوْمِ بِالِاتِّصَالِ وَالْوُصُولِ: اتِّصَالُ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَوُصُولُهُ إِلَيْهِ. لَا بِمَعْنَى اتِّصَالِ ذَاتِ الْعَبْدِ بِذَاتِ الرَّبِّ، كَمَا تَتَّصِلُ الذَّاتَانِ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَلَا بِمَعْنَى انْضِمَامِ إِحْدَى الذَّاتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى وَالْتِصَاقِهَا بِهَا. وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ بِالِاتِّصَالِ وَالْوُصُولِ: إِزَالَةُ النَّفْسِ وَالْخَلْقِ مِنْ طَرِيقِ السَّيْرِ إِلَى اللَّهِ. وَلَا تَتَوَهَّمْ سِوَى ذَلِكَ. فَإِنَّهُ عَيْنُ الْمُحَالِ. فَإِنَّ السَّالِكَ لَا يَزَالُ سَائِرًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَمُوتَ. فَلَا يَنْقَطِعُ سَيْرُهُ إِلَّا بِالْمَوْتِ. فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ وُصُولٌ يَفْرَغُ مَعَهُ السِّرُّ وَيَنْتَهِي. وَلَيْسَ ثَمَّ اتِّصَالٌ حِسِّيٌّ بَيْنَ ذَاتِ الْعَبْدِ وَذَاتِ الرَّبِّ. فَالْأَوَّلُ: تَعْطِيلٌ وَإِلْحَادٌ. وَالثَّانِي: حُلُولٌ وَاتِّحَادٌ. وَإِنَّمَا حَقِيقَةُ الْأَمْرِ: تَنْحِيَةُ النَّفْسِ وَالْخَلْقِ عَنِ الطَّرِيقِ. فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَهُمَا: هُوَ الِانْقِطَاعُ. وَتَنْحِيَتَهُمَا هُوَ الِاتِّصَالُ. وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ الْقَائِلُونَ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعَبْدُ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ، وَأَفْعَالُهُ مِنْ صِفَاتِهِ. وَصِفَاتُهُ مِنْ ذَاتِهِ. فَأَنْتَجَ لَهُمْ هَذَا التَّرْكِيبُ: أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ ذَاتِ الرَّبِّ. تَعَالَى اللَّهُ وَتَقَدَّسَ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَمَوْضِعُ الْغَلَطِ: أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ مَفْعُولَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، لَا مِنْ أَفْعَالِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ. وَمَفْعُولَاتُهُ آثَارُ أَفْعَالِهِ. وَأَفْعَالُهُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ، فَذَاتُهُ سُبْحَانَهُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَمَفْعُولَاتُهُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، تِلْكَ مَخْلُوقَةٌ مُحْدَثَةٌ. وَالرَّبُّ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَالْأَلْفَاظَ الْمُجْمَلَةَ الْمُشْتَبِهَةَ الَّتِي وَقَعَ اصْطِلَاحُ الْقَوْمِ عَلَيْهَا. فَإِنَّهَا أَصْلُ الْبَلَاءِ. وَهِيَ مَوْرِدُ الصِّدِّيقِ وَالزِّنْدِيقِ. فَإِذَا سَمِعَ الضَّعِيفُ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَفْظَ " اتِّصَالٍ وَانْفِصَالٍ، وَمُسَامَرَةٍ، وَمُكَالَمَةٍ، وَأَنَّهُ لَا وُجُودَ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا وُجُودُ اللَّهِ، وَأَنَّ وُجُودَ الْكَائِنَاتِ خَيَالٌ وَوَهْمٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ الظِّلِّ الْقَائِمِ بِغَيْرِهِ " فَاسْمَعْ مِنْهُ مَا يَمْلَأُ الْآذَانَ مِنْ حُلُولٍ وَاتِّحَادٍ وَشَطَحَاتٍ. وَالْعَارِفُونَ مِنَ الْقَوْمِ أَطْلَقُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَنَحْوَهَا، وَأَرَادُوا بِهَا مَعَانِيَ صَحِيحَةً فِي أَنْفُسِهَا. فَغَلِطَ الْغَالِطُونَ فِي فَهْمِ مَا أَرَادُوهُ. وَنَسَبُوهُمْ إِلَى إِلْحَادِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. وَاتَّخَذُوا كَلِمَاتِهِمُ الْمُتَشَابِهَةَ تُرْسًا لَهُ وَجُنَّةً، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: وَمِنْكَ بَدَا حُبٌّ بِعِزٍّ تَمَازَجَا *** بِنَا وَوِصَالًا كُنْتَ أَنْتَ وَصَلْتَهُ ظَهَرْتَ لِمَنْ أَبْقَيْتَ بَعْدَ فَنَائِهِ *** وَكَانَ بِلَا كَوْنٍ لِأَنَّكَ كُنْتَهُ فَيَسْمَعُ الْغِرُّ " التَّمَازُجَ وَالْوِصَالَ " فَيَظُنُّ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفْسُ كَوْنِ الْعَبْدِ. فَلَا يَشُكُّ أَنَّ هَذَا هُوَ غَايَةُ التَّحْقِيقِ، وَنِهَايَةُ الطَّرِيقِ. ثُمَّ لِنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَوْلُهُ: يُدْرِجُ حَظَّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. الْمَعْنَى الصَّحِيحُ، الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ هَذَا الْكَلَامُ: أَنَّ مَنْ تَمَكَّنَ فِي قَلْبِهِ شُهُودُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَصَفَا لَهُ عِلْمُهُ وَحَالُهُ: انْدَرَجَ عَمَلُهُ جَمِيعُهُ وَأَضْعَافُهُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهِ فِي حَقِّ رَبِّهِ تَعَالَى وَرَآهُ فِي جَنْبِ حَقِّهِ أَقَلَّ مِنْ خَرْدَلَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِبَالِ الدُّنْيَا. فَسَقَطَ مِنْ قَلْبِهِ اقْتِضَاءُ حَظِّهِ مِنَ الْمُجَازَاةِ عَلَيْهِ. لِاحْتِقَارِهِ لَهُ، وَقِلَّتِهِ عِنْدَهُ، وَصِغَرِهِ فِي عَيْنِهِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ: يَا دَاوُدَ، أَنْذِرْ عِبَادِيَ الصَّادِقِينَ. فَلَا يُعْجِبُنَّ بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَتَّكِلُنَّ عَلَى أَعْمَالِهِمْ. فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عِبَادِي أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ، وَأُقِيمُ عَلَيْهِ عَدْلِي إِلَّا عَذَّبْتَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ أَظْلِمَهُ. وَبَشِّرْ عِبَادِيَ الْخَطَّائِينَ: أَنَّهُ لَا يَتَعَاظَمُنِي ذَنْبٌ أَنْ أَغْفِرَهُ وَأَتَجَاوَزَ عَنْهُ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَا سَيَّارٌ حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ قَالَ: تَعَبَّدَ رَجُلٌ سَبْعِينَ سَنَةً. وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ اجْزِنِي بِعَمَلِي. فَمَاتَ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ. فَكَانَ فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا. فَلَمَّا فَرَغَ وَقْتُهُ، قِيلَ لَهُ: اخْرُجْ، فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ عَمَلَكَ، فَقَلَّبَ أَمْرَهُ: أَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ؟ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا أَوْثَقَ فِي نَفْسِهِ مِنْ دُعَاءِ اللَّهِ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: رَبِّ سَمِعْتُكَ- وَأَنَا فِي الدُّنْيَا- وَأَنْتَ تُقِيلُ الْعَثَرَاتِ. فَأَقِلِ الْيَوْمَ عَثْرَتِي. فَتُرِكَ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدَّثَنَا هَاشِمٌ حَدَّثَنَا صَالِحٌ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ أَبِي الْجِلْدِ قَالَ: قَالَ مُوسَى: إِلَهِي، كَيْفَ أَشْكُرُكَ، وَأَصْغَرُ نِعْمَةٍ وَضَعْتَهَا عِنْدِي مِنْ نِعْمَتِكَ لَا يُجَازِيهَا عَمَلِي كُلُّهُ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: يَا مُوسَى، الْآنَ شَكَرْتَنِي. فَهَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيحُ مِنِ انْدِرَاجِ حَظِّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَلَهُ مَحْمَلٌ آخَرُ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّ ذَاتَ الْعَبْدِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالَهُ وَقُوَاهُ وَحَرَكَاتِهِ: كُلَّهَا مَفْعُولَةٌ لِلرَّبِّ، مَمْلُوكَةٌ لَهُ، لَيْسَ يَمْلِكُ الْعَبْدُ مِنْهَا شَيْئًا. بَلْ هُوَ مَحْضُ مُلْكِ اللَّهِ. فَهُوَ الْمَالِكُ لَهَا، الْمُنْعِمُ عَلَى عَبْدِهِ بِإِعْطَائِهِ إِيَّاهَا. فَالْمَالُ مَالُهُ. وَالْعَبْدُ عَبْدُهُ. وَالْخِدْمَةُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ. وَهِيَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْهِ. فَالْفَضْلُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَمِنَ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ. قَوْلُهُ " وَيَعْرِفُ نِهَايَاتِ الْخَبَرِ فِي بِدَايَاتِ الْعِيَانِ " الْخَبَرُ: مُتَعَلَّقُ الْغَيْبِ. وَالْعِيَانُ مُتَعَلَّقُ الشَّهَادَةِ. وَهُوَ إِدْرَاكُ عَيْنِ الْبَصِيرَةِ لِصِحَّةِ الْخَبَرِ، وَثُبُوتِ مَخْبَرِهِ. وَمُرَادُهُ بِـ " بِدَايَاتِ الْعِيَانِ " أَوَائِلُ الْكَشْفِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَى مَقَامِ الْفَنَاءِ. وَمَقْصُودُهُ: أَنْ يَرَى الشَّاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ بِقَلْبِهِ عِيَانًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وقال تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فَقَدْ قَالَ: أَفَمَنْ رَأَى بِعَيْنِ قَلْبِهِ أَنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ هُوَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ ذَلِكَ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَقَامِ الْإِحْسَانِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَصْدِيقَ الْخَبَرِ وَالْيَقِينَ بِهِ يُقَوِّي الْقَلْبَ، حَتَّى يَصِيرَ الْغَيْبُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاهَدِ بِالْعَيْنِ. فَصَاحِبُ هَذَا الْمَقَامِ: كَأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَاوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى عِبَادِهِ نَاظِرًا إِلَيْهِمْ، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَيَرَى ظَوَاهِرَهُمْ وَبَوَاطِنَهُمْ. وَكَأَنَّهُ يَسْمَعُهُ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْوَحْيِ. وَيُكَلِّمُ بِهِ عَبْدَهُ جِبْرِيلَ، وَيَأْمُرُهُ وَيَنْهَاهُ بِمَا يُرِيدُ، وَيُدَبِّرُ أَمْرَ الْمَمْلَكَةِ. وَأَمْلَاكُهُ صَاعِدَةٌ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِهِ بِهِ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَهُوَ يَرْضَى وَيَغْضَبُ، وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَضْحَكُ وَيَفْرَحُ، وَيُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ بَيْنَ مَلَائِكَتِهِ، وَيَذُمُّ أَعْدَاءَهُ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ وَيُشَاهِدُ يَدَيْهِ الْكَرِيمَتَيْنِ، وَقَدْ قَبَضَتْ إِحْدَاهُمَا السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ، وَالْأُخْرَى الْأَرَضِينَ السَّبْعَ. وَقَدْ طَوَى السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ بِيَمِينِهِ، كَمَا يُطْوَى السِّجِلُّ عَلَى أَسْطُرِ الْكِتَابِ. وَكَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ، وَقَدْ جَاءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ. فَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِهِ. وَنَادَى- وَهُوَ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ- بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ " وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: " لَا يُجَاوِزُنِي الْيَوْمَ ظُلْمُ ظَالِمٍ ". وَكَأَنَّهُ يُسْمِعُ نِدَاءَهُ لِآدَمَ " يَا آدَمُ، قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ " بِإِذْنِهِ الْآنَ، وَكَذَلِكَ نِدَاؤُهُ لِأَهْلِ الْمَوْقِفِ {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} وَمَاذَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ وَبِالْجُمْلَةِ: فَيُشَاهِدُ بِقَلْبِهِ رَبًّا عَرَّفَتْ بِهِ الرُّسُلُ، كَمَا عَرَّفَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَدِينًا دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ. وَحَقَائِقَ أَخْبَرَتْ بِهَا الرُّسُلُ. فَقَامَ شَاهِدُ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ كَمَا قَامَ شَاهِدُ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ- وَإِنْ لَمْ يَرَهُ- مِنَ الْبِلَادِ وَالْوَقَائِعِ. فَهَذَا إِيمَانُهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعِيَانِ، وَإِيمَانُ غَيْرِهِ فَمَحْضُ تَقْلِيدِ الْعُمْيَانِ. قَوْلُهُ " وَيَطْوِي خِسَّةَ التَّكَالِيفِ " لَيْتَ الشَّيْخَ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِغَيْرِهَا. فَوَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَقْبَحُ مِنْ شَوْكَةٍ فِي الْعَيْنِ، وَشَجًى فِي الْحَلْقِ. وَحَاشَا التَّكَالِيفَ أَنْ تُوصَفَ بِخِسَّةٍ، أَوْ تَلْحَقَهَا خِسَّةٌ. وَإِنَّمَا هِيَ قُرَّةُ عَيْنٍ، وَسُرُورُ قَلْبٍ، وَحَيَاةُ رُوحٍ. صَدَرَ التَّكْلِيفُ بِهَا عَنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. فَهِيَ أَشْرَفُ مَا وَصَلَ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَثَوَابُهُ عَلَيْهَا أَشْرَفُ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْعَبْدِ. نَعَمْ لَوْ قَالَ: يَطْوِي ثِقَلَ التَّكَالِيفِ وَيُخَفِّفُ أَعْبَاءَهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. فَلَعَلَّهُ كَانَ أَوْلَى، وَلَوْلَا مَقَامُهُ فِي الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْقِيَامِ بِالْأَوَامِرِ لَكُنَّا نُسِيءُ بِهِ الظَّنَّ. وَالَّذِي يَحْتَمِلُ أَنْ يُصَرَّفَ كَلَامُهُ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّفَاءَ- الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ- لَمَّا انْطَوَتْ فِي حُكْمِهِ الْوَسَائِطُ وَالْأَسْبَابُ. وَانْدَرَجَ فِيهِ حَظُّ الْعُبُودِيَّةِ فِي حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ: انْطَوَتْ فِيهِ رُؤْيَةُ كَوْنِ الْعِبَادَةِ تَكْلِيفًا. فَإِنَّ رُؤْيَتَهَا تَكْلِيفًا خِسَّةٌ مِنَ الرَّائِي. لِأَنَّهُ رَآهَا بِعَيْنِ أَنَفَتِهِ وَقِيَامِهِ بِهَا. وَلَمْ يَرَهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَقَامِ " فَبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي " وَلَوْ وَصَلَ إِلَى ذَلِكَ لَرَآهَا بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ، وَلَا خِسَّةَ فِيهَا هُنَاكَ أَلْبَتَّةَ. فَإِنَّ نَظَرَهُ قَدْ تَعَدَّى مِنْ قِيَامِهِ بِهَا إِلَى قِيَامِهَا بِالْقَيُّومِ الَّذِي قَامَ بِهِ كُلُّ شَيْءٍ. فَكَانَ لَهَا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: هِيَ بِهِ خَسِيسَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ قِيَامِهَا بِالْعَبْدِ، وَصُدُورِهَا مِنْهُ. وَالثَّانِي: هِيَ بِهِ شَرِيفَةٌ. وَهُوَ وَجْهُ كَوْنِهَا بِالرَّبِّ تَعَالَى وَأَوَّلِيَّتِهِ، أَمْرًا وَتَكْوِينًا وَإِعَانَةً. فَالصَّفَاءُ يَطْوِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ خَاصَّةً. وَالْمَعْنَى الثَّانِي، الَّذِي يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ: أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ: أَنَّ الصَّفَاءَ يَشْهَدُهُ عَيْنُ الْأَزَلِ، وَسَبْقُ الرَّبِّ تَعَالَى، وَأَوَّلِيَّتُهُ لِكُلِّ شَيْءٍ. فَتَنْطَوِي فِي هَذَا الْمَشْهَدِ أَعْمَالُهُ الَّتِي عَمِلَهَا. وَيَرَاهَا خَسِيسَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ. فَكَأَنَّهُ قَالَ: تَنْطَوِي أَعْمَالُهُ، وَتَصِيرُ- بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْعَيْنِ- خَسِيسَةً جِدًّا لَا تُذْكَرُ. بَلْ تَكُونُ فِي عَيْنِ الْأَزَلِ هَبَاءً مَنْثُورًا، لَا حَاصِلَ لَهَا. فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ ظَرْفُ التَّكْلِيفِ يَتَلَاشَى جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَزَلِ. وَهُوَ وَقْتٌ خَسِيسٌ حَقِيرٌ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا حَاصِلَ لَهُ. وَلَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى الْأَزَلِ وَالْأَبَدِ فِي مِقْدَارِ الْأَعْمَالِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ. وَهِيَ يَسِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَجْمُوعِ الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ يَسِيرٌ جِدًّا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَيْنِ الْأَزَلِ. فَهَذَا أَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُهُ مَعَ قَلَقِهِ. وَقَدِ اعْتَرَاهُ فِيهِ سُوءُ تَعْبِيرٍ. وَكَأَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهَا الْخِسَّةَ لِقِلَّتِهَا وَخِفَّتِهَا. بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَظَمَةِ الْمُكَلِّفِ بِهَا سُبْحَانَهُ. وَمَا يَسْتَحِقُّهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
|