فصل: فَصْلٌ: (رجوعُ الْعَبْدِ إِلَى دَرَجَتِهِ بعد التَّوْبَةِ):

صباحاً 0 :53
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
4
الخميس
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [رجوعُ الْعَبْدِ إِلَى دَرَجَتِهِ بعد التَّوْبَةِ]:

[الْعَبْدُ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي حَطَّهُ عَنْهَا الذَّنْبُ، أَوْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؟]
وَمِنْ أَحْكَامِهَا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَابَ مِنَ الذَّنْبِ فَهَلْ يَرْجِعُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الذَّنْبِ مِنَ الدَّرَجَةِ الَّتِي حَطَّهُ عَنْهَا الذَّنْبُ، أَوْ لَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا؟ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَرْجِعُ إِلَى دَرَجَتِهِ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ الذَّنْبَ بِالْكُلِّيَّةِ، وَتُصَيِّرُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمُقْتَضِي لِدَرَجَتِهِ مَا مَعَهُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَعَادَ إِلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ.
قَالُوا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ حَسَنَةٌ عَظِيمَةٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، فَإِذَا كَانَ ذَنْبُهُ قَدْ حَطَّهُ عَنْ دَرَجَتِهِ، فَحَسَنَتُهُ بِالتَّوْبَةِ رَقَّتْهُ إِلَيْهَا، وَهَذَا كَمَنْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ، وَلَهُ صَاحِبٌ شَفِيقٌ، أَدْلَى إِلَيْهِ حَبْلًا تَمَسَّكَ بِهِ حَتَّى رَقِيَ مِنْهُ إِلَى مَوْضِعِهِ، فَهَكَذَا التَّوْبَةُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ مِثْلُ هَذَا الْقَرِينِ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الشَّفِيقِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ وَحَالِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وُقُوفٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي صُعُودٍ، فَبِالذَّنْبِ صَارَ فِي نُزُولٍ وَهُبُوطٍ، فَإِذَا تَابَ نَقَصَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرُ الَّذِي كَانَ مُسْتَعِدًّا بِهِ لِلتَّرَقِّي.
قَالُوا: وَمِثْلُ هَذَا مِثْلُ رَجُلَيْنِ سَائِرَيْنِ عَلَى طَرِيقٍ سَيْرًا وَاحِدًا، ثُمَّ عَرَضَ لِأَحَدِهِمَا مَا رَدَّهُ عَلَى عَقِبِهِ أَوْ أَوْقَفَهُ، وَصَاحِبُهُ سَائِرٌ، فَإِذَا اسْتَقَالَ هَذَا رُجُوعَهُ وَوَقْفَتَهُ، وَسَارَ بِإِثْرِ صَاحِبِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ أَبَدًا، لِأَنَّهُ كُلَّمَا سَارَ مَرْحَلَةً تَقَدَّمَ ذَاكَ أُخْرَى.
قَالُوا: وَالْأَوَّلُ يَسِيرُ بِقُوَّةِ أَعْمَالِهِ وَإِيمَانِهِ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ سَيْرًا ازْدَادَتْ قُوَّتُهُ، وَذَلِكَ الْوَاقِفُ الَّذِي رَجَعَ قَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ سَيْرِهِ وَإِيمَانِهِ بِالْوُقُوفِ وَالرُّجُوعِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَحْكِي هَذَا الْخِلَافَ، ثُمَّ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ لَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَيْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُودُ إِلَى أَعْلَى مِنْهَا، فَيَصِيرُ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الذَّنْبِ، وَكَانَ دَاوُدُ بَعْدَ التَّوْبَةِ خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ.
قَالَ: وَهَذَا بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَجِدِّهِ وَعَزْمِهِ، وَحَذَرِهِ وَتَشْمِيرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَ لَهُ قَبْلَ الذَّنْبِ عَادَ خَيْرًا مِمَّا كَانَ وَأَعْلَى دَرَجَةً، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ عَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ لَمْ يَعُدْ إِلَى دَرَجَتِهِ، وَكَانَ مُنْحَطًّا عَنْهَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ فَصْلُ النِّزَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَثَلَيْنِ مَضْرُوبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَجُلٌ مُسَافِرٌ سَائِرٌ عَلَى الطَّرِيقِ بِطُمَأْنِينَةٍ وَأَمْنٍ، فَهُوَ يَعْدُو مَرَّةً وَيَمْشِي أُخْرَى، وَيَسْتَرِيحُ تَارَةً وَيَنَامُ أُخْرَى، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ عَرَضَ لَهُ فِي سَيْرِهِ ظِلٌّ ظَلِيلٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ وَمَقِيلٌ، وَرَوْضَةٌ مُزْهِرَةٌ، فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى النُّزُولِ عَلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، فَنَزَلَ عَلَيْهَا، فَوَثَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا عَدُوٌّ، فَأَخَذَهُ وَقَيَّدَهُ وَكَتَّفَهُ وَمَنَعَهُ عَنِ السَّيْرِ، فَعَايَنَ الْهَلَاكَ، وَظَنَّ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ بِهِ، وَأَنَّهُ رِزْقُ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ، وَأَنَّهُ قَدْ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصِدِهِ الَّذِي يَؤُمُّهُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ تَتَقَاذَفُهُ الظُّنُونُ، إِذْ وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ وَالِدُهُ الشَّفِيقُ الْقَادِرُ، فَحَلَّ كِتَافَهُ وَقُيُودَهُ، وَقَالَ لَهُ: ارْكَبِ الطَّرِيقَ وَاحْذَرْ هَذَا الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ عَلَى مَنَازِلِ الطَّرِيقِ لَكَ بِالْمِرْصَادِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ مَا دُمْتَ حَاذِرًا مِنْهُ، مُتَيَقِّظًا لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْكَ، فَإِذَا غَفَلْتَ وَثَبَ عَلَيْكَ، وَأَنَا مُتَقَدِّمُكَ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَفَرَطٌ لَكَ فَاتَّبِعْنِي عَلَى الْأَثَرِ.
فَإِنْ كَانَ هَذَا السَّائِرُ كَيِّسًا فَطِنًا لَبِيبًا، حَاضِرَ الذِّهْنِ وَالْعَقْلِ، اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ اسْتِقْبَالًا آخَرَ، أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ وَأَتَمَّ، وَاشْتَدَّ حَذَرُهُ، وَتَأَهَّبَ لِهَذَا الْعَدُوِّ، وَأَعَدَّ لَهُ عُدَّتَهُ، فَكَانَ سَيْرُهُ الثَّانِي أَقْوَى مِنَ الْأَوَّلِ، وَخَيْرًا مِنْهُ، وَوُصُولُهُ إِلَى الْمَنْزِلِ أَسْرَعَ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ عَدُوِّهِ وَعَادَ إِلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأَوَّلِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَلَا قُوَّةِ حَذَرٍ وَلَا اسْتِعْدَادٍ، عَادَ كَمَا كَانَ، وَهُوَ مُعَرَّضٌ لِمَا عُرِّضَ لَهُ أَوْلًا.
وَإِنْ أَوْرَثَهُ ذَلِكَ تَوَانِيًا فِي سَيْرِهِ وَفُتُورًا، وَتَذَكُّرًا لِطَيِّبِ مَقِيلِهِ، وَحُسْنِ ذَلِكَ الرَّوْضِ وَعُذُوبَةِ مَائِهِ، وَتَفَيُّؤِ ظِلَالِهِ، وَسُكُونًا بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ لَمْ يَعُدْ إِلَى مِثْلِ سَيْرِهِ وَنَقَصَ عَمَّا كَانَ.
الْمَثَلُ الثَّانِي: عَبْدٌ فِي صِحَّةٍ وَعَافِيَةِ جِسْمٍ، عَرَضَ لَهُ مَرَضٌ أَوْجَبَ لَهُ حِمْيَةً وَشُرْبَ دَوَاءٍ وَتَحَفُّظًا مِنَ التَّخْلِيطِ، وَنَقَصَ بِذَلِكَ مَادَّةً رِدْيَةً كَانَتْ مُنَقِّصَةً لِكَمَالِ قُوَّتِهِ وَصِحَّتِهِ، فَعَادَ بَعْدَ الْمَرَضِ أَقْوَى مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ، كَمَا قِيلَ:
لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُــهُ ** وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ

وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْمَرَضُ ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ، وَتَدَارَكَهُ بِمِثْلِ مَا نَقَصَ مِنْ قُوَّتِهِ، عَادَ إِلَى مِثْلِ مَا كَانَ.
وَإِنْ تَدَارَكَهُ بِدُونِ مَا نَقَصَ مِنْ قُوَّتِهِ، عَادَ إِلَى دُونِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُوَّةِ.
وَفِي هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ كِفَايَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُمَا.
وَقَدْ ضُرِبَ لِذَلِكَ مَثَلٌ آخَرُ بِرَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ فِي طَرِيقِهِ، فَعَرَضَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ جَبَذَ ثَوْبَهُ وَأَوْقَفَهُ قَلِيلًا، يُرِيدُ تَعْوِيقَهُ عَنِ الصَّلَاةِ، فَلَهُ مَعَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ، فَهَذِهِ حَالُ غَيْرِ التَّائِبِ.
الثَّانِي: أَنْ يُجَاذِبَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَتَفَلَّتَ مِنْهُ، لِئَلَّا تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ.
ثُمَّ لَهُ بَعْدَ هَذَا التَّفَلُّتِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ سَيْرُهُ جَمْزًا وَوَثْبًا، لِيَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِتِلْكَ الْوَقْفَةِ، فَرُبَّمَا اسْتَدْرَكَهُ وَزَادَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: أَنْ يَعُودَ إِلَى مِثْلِ سَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنْ تُورِثَهُ تِلْكَ الْوَقْفَةُ فُتُورًا وَتَهَاوُنًا، فَيَفُوتَهُ فَضِيلَةُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، أَوْ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَأَوَّلِ الْوَقْتِ، فَهَكَذَا حَالُ التَّائِبِينَ السَّائِرِينَ سَوَاءً.

.فَصْلٌ: [مَسْأَلَة: هَلِ الْمُطِيعُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ خَيْرٌ أم الْعَاصِي الَّذِي تَابَ؟]:

وَيَتَبَيَّنُ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ شَرِيفَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ هَلِ الْمُطِيعُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ خَيْرٌ مِنَ الْعَاصِي الَّذِي تَابَ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، أَوْ هَذَا التَّائِبُ أَفْضَلُ مِنْهُ؟
اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.
فَطَائِفَةٌ رَجَّحَتْ مَنْ لَمْ يَعْصِ عَلَى مَنْ عَصَى وَتَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَاحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ أَكْمَلَ الْخَلْقِ وَأَفْضَلَهُمْ أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ، وَهَذَا الَّذِي لَمْ يَعْصِ أَطْوَعُ، فَيَكُونُ أَفْضَلَ.
الثَّانِي: أَنَّ فِي زَمَنِ اشْتِغَالِ الْعَاصِي بِمَعْصِيَتِهِ يَسْبِقُهُ الْمُطِيعُ عِدَّةَ مَرَاحِلَ إِلَى فَوْقُ، فَتَكُونُ دَرَجَتُهُ أَعْلَى مِنْ دَرَجَتِهِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا تَابَ اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ لِيَلْحَقَهُ، وَذَاكَ فِي سَيْرٍ آخَرَ، فَأَنَّى لَهُ بِلَحَاقِهِ؟ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ فِي الْكَسْبِ، كُلَّمَا كَسَبَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا كَسَبَ الْآخَرُ مِثْلَهُ، فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا إِلَى كَسْبِهِ فَأَضَاعَهُ، وَأَمْسَكَ عَنِ الْكَسْبِ الْمُسْتَأْنَفِ، وَالْآخَرُ مُجِدٌّ فِي الْكَسْبِ، فَإِذَا أَدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ الْمُنَافَسَةِ، وَعَادَ إِلَى الْكَسْبِ وَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ كَسَبَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلَا يَكْسِبُ شَيْئًا إِلَّا كَسَبَ صَاحِبُهُ نَظِيرَهُ، فَأَنَّى لَهُ بِمُسَاوَاتِهِ؟.
الثَّالِثُ: أَنَّ غَايَةَ التَّوْبَةِ أَنْ تَمْحُوَ عَنْ هَذَا سَيِّئَاتِهِ، وَيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهَا، فَيَكُونَ سَعْيُهُ فِي مُدَّةِ الْمَعْصِيَةِ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَأَيْنَ هَذَا السَّعْيُ مِنْ سَعْيِ مَنْ هُوَ كَاسِبٌ رَابِحٌ؟.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلَى مَعَاصِيهِ وَمُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ، فَفِي مُدَّةِ اشْتِغَالِ هَذَا بِالذُّنُوبِ كَانَ حَظُّهُ الْمَقْتَ، وَحَظُّ الْمُطِيعِ الرِّضَا، فَاللَّهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ رَاضِيًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا خَيْرٌ مِمَّنْ كَانَ اللَّهُ رَاضِيًا عَنْهُ ثُمَّ مَقَتَهُ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، فَإِنَّ الرِّضَا الْمُسْتَمِرَّ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَخَلَّلَهُ الْمَقْتُ.
الْخَامِسُ: أَنْ الذَّنْبَ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ السُّمِّ، وَالتَّوْبَةَ تِرْيَاقُهُ وَدَوَاؤُهُ، وَالطَّاعَةَ هِيَ الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ، وَصِحَّةٌ وَعَافِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ خَيْرٌ مِنْ صِحَّةٍ تَخَلَّلَهَا مَرَضٌ وَشُرْبُ سُمٍّ أَفَاقَ مِنْهُ، وَرُبَّمَا أَدَّيَا بِهِ إِلَى التَّلَفِ أَوِ الْمَرَضِ أَبَدًا.
السَّادِسُ: أَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى خَطَرٍ شَدِيدٍ، فَإِنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، أَحَدُهَا: الْعَطَبُ وَالْهَلَاكُ بِشُرْبِ السُّمِّ.
الثَّانِي: النُّقْصَانُ مِنَ الْقُوَّةِ وَضَعْفُهَا إِنْ سَلِمَ مِنَ الْهَلَاكِ.
وَالثَّالِثُ: عَوْدُ قُوَّتِهِ إِلَيْهِ كَمَا كَانَتْ أَوْ خَيْرًا مِنْهَا بَعِيدٌ.
وَالْأَكْثَرُ إِنَّمَا هُوَ الْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ، وَلَعَلَّ الثَّالِثَ نَادِرٌ جِدًّا، فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ ضَرَرِ السُّمِّ، وَعَلَى رَجَاءٍ مِنْ حُصُولِ الْعَافِيَةِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ.
السَّابِعُ: أَنَّ الْمُطِيعَ قَدْ أَحَاطَ عَلَى بُسْتَانِ طَاعَتِهِ حَائِطًا حَصِينًا لَا يَجِدُ الْأَعْدَاءُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَثَمَرَتُهُ وَزَهْرَتُهُ وَخُضْرَتُهُ وَبَهْجَتُهُ فِي زِيَادَةٍ وَنُمُوٍّ أَبَدًا، وَالْعَاصِي قَدْ فَتَحَ فِيهِ ثَغْرًا، وَثَلَمَ فِيهِ ثُلْمَةً، وَمَكَّنَ مِنْهُ السُّرَّاقَ وَالْأَعْدَاءَ، فَدَخَلُوا فَعَاثُوا فِيهِ يَمِينًا وَشَمَالًا، أَفْسَدُوا أَغْصَانَهُ، وَخَرَّبُوا حِيطَانَهُ، وَقَطَّعُوا ثَمَرَاتِهِ، وَأَحْرَقُوا فِي نَوَاحِيهِ، وَقَطَعُوا مَاءَهُ، وَنَقَصُوا سَقْيَهُ، فَمَتَى يَرْجِعُ هَذَا إِلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ؟ فَإِذَا تَدَارَكَهُ قَيَّمَهُ وَلَمَّ شَعَثَهُ، وَأَصْلَحَ مَا فَسَدَ مِنْهُ، وَفَتَحَ طُرُقَ مَائِهِ، وَعَمَّرَ مَا خَرِبَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعُودَ كَمَا كَانَ، أَوْ أَنْقَصَ، أَوْ خَيْرًا، وَلَكِنْ لَا يَلْحَقُ بُسْتَانَ صَاحِبِهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَى نَضَارَتِهِ وَحُسْنِهِ، بَلْ فِي زِيَادَةٍ وَنُمُوٍّ، وَتَضَاعُفِ ثَمَرَةٍ، وَكَثْرَةِ غَرْسٍ.
وَالثَّامِنُ: أَنَّ طَمَعَ الْعَدُوِّ فِي هَذَا الْعَاصِي إِنَّمَا كَانَ لِضَعْفِ عِلْمِهِ وَضَعْفِ عَزِيمَتِهِ، وَلِذَلِكَ يُسَمَّى جَاهِلًا، قَالَ قَتَادَةُ: أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ، وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ آدَمَ {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} وَقَالَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وَأَمَّا مَنْ قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وَكَمَلَ عِلْمُهُ، وَقَوِيَ إِيمَانُهُ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَدُوُّهُ، وَكَانَ أَفْضَلَ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَثِّرَ أَثَرًا سَيِّئًا وَلَا بُدَّ إِمَّا هَلَاكًا كُلِّيًا، وَإِمَّا خُسْرَانًا وَعِقَابًا يَعْقُبُهُ إِمَّا عَفْوٌ وَدُخُولُ الْجَنَّةِ، وَإِمَّا نَقْصُ دَرَجَةٍ، وَإِمَّا خُمُودُ مِصْبَاحِ الْإِيمَانِ، وَعَمَلُ التَّائِبِ فِي رَفْعِ هَذِهِ الْآثَارِ وَالتَّكْفِيرِ، وَعَمَلُ الْمُطِيعِ فِي الزِّيَادَةِ، وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ.
وَلِهَذَا كَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ نَافِلَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، فَإِنَّهُ يَعْمَلُ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ، وَغَيْرُهُ يَعْمَلُ فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا؟.
الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُقْبِلَ عَلَى اللَّهِ الْمُطِيعَ لَهُ يَسِيرُ بِجُمْلَةِ أَعْمَالِهِ، وَكُلَّمَا زَادَتْ طَاعَاتُهُ وَأَعْمَالُهُ ازْدَادَ كَسْبُهُ بِهَا وَعَظُمَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَافَرَ فَكَسَبَ عَشْرَةَ أَضْعَافِ رَأْسِ مَالِهِ، فَسَافَرَ ثَانِيًا بِرَأْسِ مَالِهِ الْأَوَّلِ وَكَسْبِهِ، فَكَسَبَ عَشْرَةَ أَضْعَافِهِ أَيْضًا، فَسَافَرَ ثَالِثًا أَيْضًا بِهَذَا الْمَالِ كُلِّهِ، وَكَانَ رِبْحُهُ كَذَلِكَ، وَهَلُمَّ جَرَّا، فَإِذَا فَتَرَ عَنِ السَّفَرِ فِي آخِرِ أَمْرِهِ، مَرَّةً وَاحِدَةً، فَاتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِقَدْرِ جَمِيعِ مَا رَبِحَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْنَىقَوْلِ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ أَلْفَ عَامٍ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً وَاحِدَةً كَانَ مَا فَاتَهُ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّهُ قَدْ فَاتَهُ فِي مُدَّةِ الْإِعْرَاضِ رِبْحُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَزْيَدُ مِنَ الرِّبْحِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ مَنْ أَعْرَضَ، فَكَيْفَ مَنْ عَصَى وَأَذْنَبَ؟ وَفِي هَذَا الْوَجْهِ كِفَايَةٌ.

.فَصْلٌ: وَطَائِفَةٌ رَجَّحَتِ التَّائِبَ:

وَإِنْ لَمْ تُنْكِرْ كَوْنَ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ حَسَنَاتٍ مِنْهُ، وَاحْتَجَّتْ بِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ مِنْ أَحَبِّ الْعُبُودِيَّاتِ إِلَى اللَّهِ، وَأَكْرَمِهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، وَلَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ لَمَا ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، فَلِمَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ابْتَلَاهُ بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَزِيَادَةَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ، فَإِنَّ لِلتَّائِبِينَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً خَاصَّةً، يُوَضِّحُ ذَلِكَ:
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ لِلتَّوْبَةِ عِنْدَهُ سُبْحَانَهُ مَنْزِلَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلِهَذَا يَفْرَحُ سُبْحَانَهُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ يُقَدَّرُ، كَمَا مَثَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَرَحِ الْوَاجِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الدَّوِيَّةِ الْمُهْلِكَةِ، بَعْدَ مَا فَقَدَهَا، وَأَيِسَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَيَاةِ، وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْفَرَحُ فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ سِوَى التَّوْبَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِهَذَا الْفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي حَالِ التَّائِبِ وَقَلْبِهِ، وَمَزِيدُهُ لَا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَسْرَارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلَى الْعِبَادِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يَنَالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ الْمَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُفَتَّنَ التَّوَّابَ، وَيُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ فِيهَا مِنَ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ، وَالْخُضُوعِ، وَالتَّمَلُّقِ لِلَّهِ، وَالتَّذَلُّلِ لَهُ، مَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَإِنْ زَادَتْ فِي الْقَدْرِ وَالْكَمِّيَّةِ عَلَى عُبُودِيَّةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ الذُّلَّ وَالِانْكِسَارَ رُوحُ الْعُبُودِيَّةِ، وَمُخُّهَا وَلُبُّهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ حُصُولَ مَرَاتِبِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ لِلتَّائِبِ أَكْمَلُ مِنْهَا لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ شَارَكَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ فِي ذُلِّ الْفَقْرِ، وَالْعُبُودِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَامْتَازَ عَنْهُ بِانْكِسَارِ قَلْبِهِ كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِسْرَائِيلِيِّ: يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُكَ؟ قَالَ: عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي، وَلِأَجْلِ هَذَا كَانَ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ لِأَنَّهُ مَقَامُ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ «أَنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ فَقَالَ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ» وَقَالَ فِي الْإِطْعَامِ، وَالْإِسْقَاءِ «لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي» فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمَرِيضَ مَكْسُورُ الْقَلْبِ وَلَوْ كَانَ مَنْ كَانَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكْسِرَهُ الْمَرَضُ فَإِذَا كَانَ مُؤْمِنًا قَدِ انْكَسَرَ قَلْبُهُ بِالْمَرَضِ كَانَ اللَّهُ عِنْدَهُ.
وَهَذَا- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- هُوَ السِّرُّ فِي اسْتِجَابَةِ دَعْوَةِ الثَّلَاثَةِ: الْمَظْلُومِ، وَالْمُسَافِرِ، وَالصَّائِمِ، لِلْكَسْرَةِ الَّتِي فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّ غُرْبَةَ الْمُسَافِرِ وَكَسْرَتَهُ مِمَّا يَجِدُهُ الْعَبْدُ فِي نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ، فَإِنَّهُ يَكْسِرُ سُورَةَ النَّفْسِ السَّبْعِيَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَيُذِلُّهَا.
وَالْقَصْدُ: أَنَّ شَمْعَةَ الْجَبْرِ وَالْفَضْلِ وَالْعَطَايَا، إِنَّمَا تَنْزِلُ فِي شَمْعِدَانِ الِانْكِسَارِ، وَلِلْعَاصِي التَّائِبِ مِنْ ذَلِكَ أَوْفَرُ نَصِيبٍ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ التَّوْبَةُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: قَدْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَعْمَلُ الطَّاعَةَ فَيَدْخُلُ بِهَا النَّارَ، قَالُوا: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَعْمَلُ الذَّنْبَ فَلَا يَزَالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ وَإِنْ مَشَى ذَكَرَ ذَنْبَهُ، فَيُحْدِثُ لَهُ انْكِسَارًا، وَتَوْبَةً، وَاسْتِغْفَارًا، وَنَدَمًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ نَجَاتِهِ، وَيَعْمَلُ الْحَسَنَةَ، فَلَا تَزَالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إِنْ قَامَ وَإِنْ قَعَدَ وَإِنْ مَشَى، كُلَّمَا ذَكَرَهَا أَوْرَثَتْهُ عُجْبًا وَكِبْرًا وَمِنَّةً، فَتَكُونُ سَبَبَ هَلَاكِهِ، فَيَكُونُ الذَّنْبُ مُوجِبًا لِتَرَتُّبِ طَاعَاتٍ وَحَسَنَاتٍ، وَمُعَامَلَاتٍ قَلْبِيَّةٍ، مِنْ خَوْفِ اللَّهِ وَالْحَيَاءِ مِنْهُ، وَالْإِطْرَاقِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ خَجَلًا، بَاكِيًا نَادِمًا، مُسْتَقِيلًا رَبَّهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ طَاعَةٍ تُوجِبُ لَهُ صَوْلَةً، وَكِبْرًا، وَازْدِرَاءً بِالنَّاسِ، وَرُؤْيَتَهُمْ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الذَّنْبَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَقْرَبُ إِلَى النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ مِنْ هَذَا الْمُعْجَبِ بِطَاعَتِهِ، الصَّائِلِ بِهَا، الْمَانِّ بِهَا، وَبِحَالِهِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادِهِ، وَإِنْ قَالَ بِلِسَانِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، فَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، وَيَكَادُ يُعَادِي الْخَلْقَ إِذَا لَمْ يُعَظِّمُوهُ وَيَرْفَعُوهُ، وَيَخْضَعُوا لَهُ، وَيَجِدُ فِي قَلْبِهِ بَغْضَةً لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ بِهِ ذَلِكَ، وَلَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ حَقَّ التَّفْتِيشِ لَرَأَى فِيهَا ذَلِكَ كَامِنًا، وَلِهَذَا تَرَاهُ عَاتِبًا عَلَى مَنْ لَمْ يُعَظِّمْهُ وَيَعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ، مُتَطَلِّبًا لِعَيْبِهِ فِي قَالَبِ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ، وَغَضَبٍ لَهُ، وَإِذَا قَامَ بِمَنْ يُعَظِّمُهُ وَيَحْتَرِمُهُ، وَيَخْضَعُ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ أَضْعَافَ مَا قَامَ بِهَذَا فَتَحَ لَهُ بَابَ الْمَعَاذِيرِ وَالرَّجَاءِ، وَأَغْمَضَ عَنْهُ عَيْنَهُ وَسَمْعَهُ، وَكَفَّ لِسَانَهُ وَقَلْبَهُ، وَقَالَ: بَابُ الْعِصْمَةِ عَنْ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مَسْدُودٌ، وَرُبَّمَا ظَنَّ أَنَّ ذُنُوبَ مَنْ يُعَظِّمُهُ تُكَفَّرُ بِإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَإِكْرَامِهِ إِيَّاهُ.
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا الْعَبْدِ خَيْرًا أَلْقَاهُ فِي ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، وَيُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، وَيَكْفِي بِهِ عِبَادَهُ شَرَّهُ، وَيُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، وَيَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْمِنَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى عِبَادِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الذَّنْبُ أَنْفَعَ لِهَذَا مِنْ طَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الدَّوَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدَّاءَ الْعُضَالَ، كَمَا قِيلَ بِلِسَانِ الْحَالِ فِي قِصَّةِ آدَمَ وَخُرُوجِهِ مِنَ الْجَنَّةِ بِذَنْبِهِ:
يَا آدَمُ، لَا تَجْزَعْ مِنْ كَأْسِ زَلَلٍ كَانَتْ سَبَبَ كَيْسِكَ، فَقَدِ اسْتُخْرِجَ بِهَا مِنْكَ دَاءٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَجَاوِرَنَا بِهِ، وَأُلْبِسْتَ بِهَا حُلَّةَ الْعُبُودِيَّةِ.
لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُــهُ ** وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ

يَا آدَمُ، إِنَّمَا ابْتَلَيْتُكَ بِالذَّنْبِ لِأَنِّي أُحِبُّ أَنْ أُظْهِرَ فَضْلِي، وَجُودِي وَكَرَمِي، عَلَى مَنْ عَصَانِي لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ.
يَا آدَمُ، كُنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ الْمُلُوكِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَالْيَوْمَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ الْعَبِيدِ عَلَى الْمُلُوكِ.
يَا آدَمُ، إِذَا عَصَمْتُكَ وَعَصَمْتُ بَنِيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَعَلَى مَنْ أَجُودُ بِحِلْمِي؟ وَعَلَى مَنْ أَجُودُ بِعَفْوِي وَمَغْفِرَتِي، وَتَوْبَتِي، وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ؟.
يَا آدَمُ، لَا تَجْزَعْ مِنْ قَوْلِي لَكَ {اخْرُجْ مِنْهَا} فَلَكَ خَلَقْتُهَا، وَلَكِنِ اهْبِطْ إِلَى دَارِ الْمُجَاهَدَةِ، وَابْذُرْ بِذْرَ التَّقْوَى، وَأَمْطِرْ عَلَيْكَ سَحَائِبَ الْجُفُونِ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحُبُّ وَاسْتَغْلَظَ، وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ، فَتَعَالَ فَاحْصُدْهُ.
يَا آدَمُ، مَا أَهْبَطْتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا لِتَتَوَسَّلَ إِلَيَّ فِي الصُّعُودِ، وَمَا أَخْرَجْتُكَ مِنْهَا نَفْيًا لَكَ عَنْهَا، مَا أَخْرَجْتُكَ مِنْهَا إِلَّا لِتَعُودَ.
إِنْ جَرَى بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ عَتْــبٌ ** وَتَنَاءَتْ مِنَّا وَمِنْكَ الدِّيَارُ

فَالْوِدَادُ الَّذِي عَهِدْتَ مُقِيــمٌ ** وَالْعَثَارُ الَّذِي أَصَبْتَ جُبَارُ

يَا آدَمُ، ذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْنَا، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ طَاعَةٍ تُدِلُّ بِهَا عَلَيْنَا.
يَا آدَمُ، أَنِينُ الْمُذْنِبِينَ، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ تَسْبِيحِ الْمُدِلِّينَ.
«يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».
يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ رَبَّهُ فِي طَوَافِهِ بِالْبَيْتِ أَنْ يَعْصِمَهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَسَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ: أَنْتَ تَسْأَلُنِي الْعِصْمَةَ، وَكُلُّ عِبَادِي يَسْأَلُونَنِي الْعِصْمَةَ، فَإِذَا عَصَمْتُهُمْ فَعَلَى مَنْ أَتَفَضَّلُ وَأَجُودُ بِمَغْفِرَتِي وَعَفْوِي؟ وَعَلَى مَنْ أَتُوبُ؟ وَأَيْنَ كَرَمِي وَعَفْوِي وَمَغْفِرَتِي وَفَضْلِي؟ وَنَحْوُ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ.
يَا ابْنَ آدَمَ، إِذَا آمَنْتَ بِي وَلَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، أَقَمْتُ حَمَلَةَ عَرْشِي وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِي وَيَسْتَغْفِرُونَ لَكَ وَأَنْتَ عَلَى فِرَاشِكَ، وَفِي الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ الْإِلَهِيِّ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَمَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى الْمَغْفِرَةِ غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يَا عَبْدِي! لَا تَعْجِزْ، فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ، وَمِنْكَ الِاسْتِغْفَارُ وَعَلَيَّ الْمَغْفِرَةُ، وَمِنْكَ التَّوْبَةُ وَعَلَيَّ تَبْدِيلُ سَيِّئَاتِكَ حَسَنَاتٍ» يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ السَّادِسُ: وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِشَارَةِ لِلتَّائِبِينَ إِذَا اقْتَرَنَ بِتَوْبَتِهِمْ إِيمَانٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ، وَفَرَحُهُ بِنُزُولِ {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ هَذَا التَّبْدِيلِ، وَهَلْ هُوَ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابُهُ: هُوَ تَبْدِيلُهُمْ بِقَبَائِحِ أَعْمَالِهِمْ مَحَاسِنَهَا، فَبَدَّلَهُمْ بِالشِّرْكِ إِيمَانًا، وَبِالزِّنَا عِفَّةً وَإِحْصَانًا، وَبِالْكَذِبِ صِدْقًا، وَبِالْخِيَانَةِ أَمَانَةً.
فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ صِفَاتِهِمُ الْقَبِيحَةَ، وَأَعْمَالَهُمُ السَّيِّئَةَ، بُدِّلُوا عِوَضَهَا صِفَاتٍ جَمِيلَةً، وَأَعْمَالًا صَالِحَةً، كَمَا يُبَدَّلُ الْمَرِيضُ بِالْمَرَضِ صِحَّةً، وَالْمُبْتَلَى بِبَلَائِهِ عَافِيَةً.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَغَيْرُهُ مِنَ التَّابِعِينَ: هُوَ تَبْدِيلُ اللَّهِ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا بِحَسَنَاتٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَيُخَبَّأُ عَنْهُ كِبَارُهَا، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ مُقِرٌّ لَا يُنْكِرُ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِهَا، فَيُقَالُ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَهَا حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إِنَّ لِي ذُنُوبًا مَا أَرَاهَا هَاهُنَا»، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ عُذِّبَ بِسَيِّئَاتِهِ وَدَخَلَ بِهَا النَّارَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَأُعْطِيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْهِ ابْتِدَاءً بِعَدَدِ ذُنُوبِهِ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَبْدِيلُ تِلْكَ الذُّنُوبِ بِحَسَنَاتٍ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُوقِبَ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يُعَاقَبِ التَّائِبُ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي تَائِبٍ أُثْبِتَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، فَزَادَتْ حَسَنَاتُهُ، فَأَيْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؟
وَالنَّاسُ اسْتَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ مُسْتَدِلِّينَ بِهِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ، لَكِنْ لِلسَّلَفِ غَوْرٌ وَدِقَّةُ فَهْمٍ لَا يُدْرِكُهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ.
فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ صَحِيحٌ، بَعْدَ تَمْهِيدِ قَاعِدَةٍ، إِذَا عَرَفْتَ عُرْفَ لُطْفِ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ وَدِقَّتِهِ، وَهِيَ أَنَّ الذَّنْبَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَثَرٍ، وَأَثَرُهُ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ تَارَةً، وَبِالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ تَارَةً، وَبِالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ تَارَةً، وَبِدُخُولِ النَّارِ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ أَثَرِهِ تَارَةً، وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَدَّ أَثَرُهُ، وَلَمْ تَقْوَ تِلْكَ الْأُمُورُ عَلَى مَحْوِهِ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ دُخُولِ النَّارِ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَكُونُ فِيهَا ذَرَّةٌ مِنَ الْخَبِيثِ، وَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مَنْ طَابَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ خُبْثِ الذُّنُوبِ أُدْخِلَ كِيرَ الِامْتِحَانِ، لِيُخَلِّصَ ذَهَبَ إِيمَانِهِ مِنْ خُبْثِهِ، فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ لِدَارِ الْمُلْكِ.
إِذَا عُلِمَ هَذَا فَزَوَالُ مُوجَبِ الذَّنْبِ وَأَثَرُهُ تَارَةً يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَهِيَ أَقْوَى الْأَسْبَابِ، وَتَارَةً يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنْهُ وَتَطْهِيرِهِ فِي النَّارِ، فَإِذَا تَطَهَّرَ بِالنَّارِ، وَزَالَ أَثَرُ الْوَسَخِ وَالْخَبَثِ عَنْهُ، أُعْطِيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَإِذَا تَطَهَّرَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَزَالَ عَنْهَا بِهَا أَثَرُ وَسَخِ الذُّنُوبِ وَخُبْثِهَا، كَانَ أَوْلَى بِأَنْ يُعْطَى مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، لِأَنَّ إِزَالَةَ التَّوْبَةِ لِهَذَا الْوَسَخِ وَالْخَبَثِ أَعْظَمُ مِنْ إِزَالَةِ النَّارِ، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَإِزَالَةُ النَّارِ بَدَلٌ مِنْهَا، وَهِيَ الْأَصْلُ، فَهِيَ أَوْلَى بِالتَّبْدِيلِ مِمَّا بَعْدَ الدُّخُولِ، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ التَّاسِعُ: وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ قَدْ بُدِّلَ كُلَّ سَيِّئَةٍ بِنَدَمِهِ عَلَيْهَا حَسَنَةً، إِذْ هُوَ تَوْبَةُ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ حَسَنَةٌ، فَصَارَ كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلَهُ زَائِلًا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي حَلَّتْ مَحَلَّهُ وَهِيَ حَسَنَةٌ، فَصَارَ لَهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَلْطَفِ الْوُجُوهِ.
وَعَلَى هَذَا فَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْحَسَنَةُ مُسَاوِيَةً فِي الْقَدْرِ لِتِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَقَدْ تَكُونُ دُونَهَا، وَقَدْ تَكُونُ فَوْقَهَا، وَهَذَا بِحَسَبِ نُصْحِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وَصِدْقِ التَّائِبِ فِيهَا، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ الَّذِي تَزِيدُ مَصْلَحَتُهُ وَنَفْعُهُ عَلَى مَفْسَدَةِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ مَسَائِلِ التَّوْبَةِ وَلَطَائِفِهَا، يُوَضِّحُهُ:
الْوَجْهُ الْعَاشِرُ: أَنَّ ذَنْبَ الْعَارِفِ بِاللَّهِ وَبِأَمْرِهِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَسَنَاتٌ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ، وَأَعْظَمُ نَفْعًا، وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ عِصْمَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الذَّنْبِ مَنْ ذُلٍّ وَانْكِسَارٍ وَخَشْيَةٍ، وَإِنَابَةٍ وَنَدَمٍ، وَتَدَارُكٍ بِمُرَاغَمَةِ الْعَدُوِّ بِحَسَنَةٍ أَوْ حَسَنَاتٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، حَتَّى يَقُولَ الشَّيْطَانُ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوقِعْهُ فِيمَا أَوْقَعْتُهُ فِيهِ، وَيَنْدَمُ الشَّيْطَانُ عَلَى إِيقَاعِهِ فِي الذَّنْبِ، كَنَدَامَةِ فَاعِلِهِ عَلَى ارْتِكَابِهِ، لَكِنْ شَتَّانَ مَا بَيْنَ النَّدَمَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ عَبْدِهِ مُرَاغَمَةَ عَدُوِّهِ وَغَيْظَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْبَةِ، فَيَحْصُلُ مِنَ الْعَبْدِ مُرَاغَمَةُ الْعَدُوِّ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّدَارُكِ، وَحُصُولُ مَحْبُوبِ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ هُنَا، مَا يُوجِبُ جَعْلَ مَكَانِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بَلْ حَسَنَاتٍ.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} وَلَمْ يَقُلْ مَكَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً فَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ السَّيِّئَةَ الْوَاحِدَةَ بِعِدَّةِ حَسَنَاتٍ بِحَسَبِ حَالِ الْمُبَدِّلِ.
وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ الَّذِي عُذِّبَ عَلَى ذُنُوبِهِ لَمْ يُبَدَّلْهَا فِي الدُّنْيَا بِحَسَنَاتٍ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَوَابِعِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَجْعَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ حَسَنَاتٍ، فَأُعْطَيَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً وَاحِدَةً، وَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ، وَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهَا ضَحِكَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ مَكَانَ كُلِّ صَغِيرَةٍ حَسَنَةً، وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّبْدِيلَ يَعُمُّ كِبَارَهَا وَصِغَارَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: أَخْبِئُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَهَذَا إِشْعَارٌ بِأَنَّهُ إِذَا رَأَى تَبْدِيلَ الصَّغَائِرِ ذَكَرَهَا وَطَمِعَ فِي تَبْدِيلِهَا، فَيَكُونُ تَبْدِيلُهَا أَعْظَمَ مَوْقِعًا عِنْدَهُ مِنْ تَبْدِيلِ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ بِهِ أَشَدُّ فَرَحًا وَاغْتِبَاطًا.
وَالثَّانِي: ضَحِكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا الضَّحِكُ مُشْعِرٌ بِالتَّعَجُّبِ مِمَّا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، وَمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَرَّرَ عَلَيْهَا وَلَا يُسْأَلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّغَائِرُ.
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، الْبَرُّ اللَّطِيفُ، الْمُتَوَدِّدُ إِلَى عِبَادِهِ بِأَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ، وَإِيصَالِهِ إِلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بِكُلِّ نَوْعٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.