سورة الرعد
بسم اللّه الرحمن الرحيم.
الآية رقم (1)
{ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون }
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقدمنا: أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن، وتبيان أن نزوله من عند اللّه حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب، ولهذا قال: {تلك آيات الكتاب} أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن، ثم عطف على ذلك صفات فقال: {والذي أنزل إليك} أي يا محمد {من ربك الحق}، وقوله: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} كقوله: {وما أكثر الناس ولو حرصت بؤمنين} أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق، والعناد، والنفاق.
الآية رقم (2)
{ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون }
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمد، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء، من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وهكذا إلى السابعة، وفي الحديث: (ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة) وفي رواية: (العرش لا يقدر قدره إلا اللّه عزّ وجلّ) وجاء عن بعض السلف: أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وهو من ياقوتة حمراء، وقوله: {بغير عمد ترونها} السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} فعلى هذا يكون قوله: {ترونها} تأكيداً لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن أنهم
قالوا: لها عمد ولكن لا ترى فتكون جملة ترونها صفة ل عمد أي بغير عمد مرئية، وهذا التأويل خلاف الظاهر المتبادر وقد أشار ابن كثير رحمه اللّه لضعف هذا القول ، وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش}، تقدم تفسير في سورة الأعراف، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، ولا تمثيل، تعالى اللّه علواً كبيراً، وقوله: {وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى} قيل: المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة، كقوله تعالى: {والشمس تجري لمستقر لها}، وقيل: المراد إلى مستقرهما وهو تحت العرش، وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت، فإذا كان قد سخر هذه فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأحرى، كما نبه بقوله تعالى: {لا تسجدوا للشمس ولا القمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون}، مع أنه قد صرح بذلك بقوله: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك اللّه رب العالمين}، وقوله: {يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون} أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
الآية رقم (3 : 4)
{ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }
لما ذكر تعالى العالم العلوي، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي، فقال: {وهو
الذي مد الأرض} أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض، وأرساها بجبال راسيات
شمخات، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون، ليسقى ما جعل فيها من الثمرات المختلفة
الألوان والأشكال والطعوم {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} أي من كل شكل صنفان {يغشي الليل النهار} أي جعل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}، أي في آلاء اللّه وحكمه ودلائله، وقوله: {وفي الأرض قطع متجاورات} أي أراض يجاور بعضها بعضاً، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض، فهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سمكية، وهذه رقيقة، والكل متجاورات، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو، وقوله: {وجنات من أعناب وزرع ونخيل} يحتمل أن تكون عاطفة على جنات، فيكون {وزرع ونخيل} مرفوعين، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب فيكون مجروراً، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة، وقوله: {صنوان وغير صنوان} الصنوان هو الأصول المجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار، وفي الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعمر: (أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه)، وقال سفيان الثوري عن البراء رضي اللّه عنه: الصنوان هي النخلات في أصل واحد؛ وغير الصنوان المتفرقات، وقوله: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال الأعمش، عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال: (الدقل والفارسي والحلو والحامض) "رواه الترمذي وقال حسن غريب"، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها، فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر، وهذا أحمر، وهذا أبيض، وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد، ولهذا قال تعالى: {إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.
الآية رقم (5)
{ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
يقول تعالى لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم: {وإن تعجب} من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد، مع ما يشاهدونه من آيات اللّه سبحانه ودلائله في خلقه، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم هم بعد هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً، فالعجب من قولهم: {أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد} وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق
السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وأن بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل، كما قال تعالى: {أو لم يروا أن اللّه الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير}، ثم بعت المكذبين بهذا، فقال: {أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم} أي يسحبون بها في النار، {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} أي ماكثون أبداً لايحولون عنها ولا يزولون.
الآية رقم (6)
{ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب }
يقول تعالى: {ويستعجلونك} أي هؤلاء المكذبون، {بالسيئة قبل الحسنة} أي بالعقوبة، كما أخبر عنهم في قوله: {ويستعجلونك بالعذاب} الآية، وقال تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع}، وقال: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها}، وقال: {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} الآية، أي عقابنا وحسابنا، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم، يطلبون أن يأتيهم بعذاب اللّه، قال اللّه تعالى: {وقد خلت من قبلهم المثلات} أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية، وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم؛ ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال: {ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة}، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس، مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف، كما قال تعالى: {فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}، وقال: {إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف، عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (لولا عفو اللّه وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد) "أخرجه ابن أبي حاتم".
الآية رقم (7)
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد }
يقول تعالى إخباراً عن المشركين إنهم يقولون كفراً وعناداً: لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً، قال تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} الآية، قال اللّه تعالى: {إنما أنت منذر} أي إنما عليك ان تبلغ رسالة اللّه التي أمرك بها، و{ليس عليك هداهم ولكن اللّه يهدي من يشاء}، وقوله: {ولكل قوم هاد} قال ابن عباس: أي ولكل قوم داع، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية: أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم وكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير . عن مجاهد {ولكل قوم هاد} أي نبي كقوله: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}، وقال يحيى بن رافع: {ولكل قوم هاد} أي قائد، وعن عكرمة: {ولكل قوم هاد}: هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، وقال مالك {ولكل قوم هاد}: يدعوهم إلى اللّه عزَّ وجلَّ.
الآية رقم (8 : 9)
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال }
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل الإناث، كما قال تعالى: {ويعلم ما في الأرحام} أي ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كقوله تعالى: {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة} الآية، وقال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث} أي خلقكم طوراً من بعد طور، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين}. وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث اللّه إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد)، وفي الحديث الآخر: (فيقول الملك أي رب! أذكر أم أنثى! أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول اللّه ويكتب الملك)
وقوله تعالى: {وما تغيض الأرحام وما تزداد}، قال البخاري، عن ابن عمر، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا اللّه، لا يعلم ما في غد إلا اللّه، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللّه، ولا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللّه)، وقال ابن عباس: {وما تغيض الأرحام} يعني السقط {وما تزداد}، يقول: ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر، ومن تحمل تسعة أشهر، ومنهن من تزيد في الحمل، ومنهن من تنقص، فلذلك الغيض والزيادة التي ذكر اللّه تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى، وعنه: ما نقصت من تسعة وما زاد عليها، وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين، وولدتني وقد نبتت ثنيتي، وقال ابن جريج، عن عائشة قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل، وقال مجاهد: {وما تغيض الأرحام وما تزداد} قال: ما ترى من الدم في حملها وما تزداد على تسعة أشهر وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحّاك ، وقال مجاهد أيضاً {وما تغيض الأرحام}: إراقة الدم حتى يحس الولد، {وما تزداد} إن لم تهرق الدم تم الولد وعظم، وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يحزن ولا يغتم، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل، فإذا وقع إلى الأرض استهل، واستهلاله استنكاره لمكانه، فإذا قطعت سرته حوّل اللّه رزقه إلى ثديي أمه، حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم، ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله، فإذا هو بلغ قال: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول: يا ويحك، غذاك وأنت في بطن أمك، وأنت طفل صغير، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت: هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول: {واللّه يعلم ما تحمل كل أنثى} الآية، وقال قتادة: {وكل شيء عنده بمقدار} أي بأجل، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلاً معلوماً، وفي الحديث الصحيح: أن إحدى بنات النبي صلى اللّه عليه وسلم بعثت إليه أن ابناً لها في الموت، وأنها تحب أن يحضره، فبعث إليها يقول: (إن للّه ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمروها فلتصبر ولتحتسب) الحديث بتمامه، وقوله: {عالم الغيب والشهادة} أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء {الكبير} الذي هو أكبر من كل شيء، {المتعال} أي على كل شيء، {قد أحاط بكل شيء علما} وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً.
الآية رقم (10 : 11)
{ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال }
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله: {وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى}، وقال: {ويعلم ما تخفون وما تعلنون}، وقوله: {ومن هو مستخف بالليل} أي مختف في قعر بيته في ظلام الليل، {وسارب بالنهار} أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه، فإن كلاهما في علم اللّه على السواء، كقوله تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم} الآية، وقوله تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه}، وقوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر اللّه} أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه، حرس بالليل، وحرس بالنهار، يحفظونه من الأسواء والحادثات، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال، يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه، واحد من ورائه وآخر من قدامه، فهو بين أربعة أملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان، كما جاء في الصحيح: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) الحديث، وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم)، وقال ابن عباس: {يحفظونه من أمر اللّه} قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر اللّه خلوا عنه، وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن اللّه فيه فيصيبه.
وقال الإمام أحمد رحمه اللّه، عن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة) قالوا: وإياك يا رسول اللّه، قال: (وإياي، ولكن اللّه أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير) "رواه مسلم وأحمد عن عبد اللّه بن مسعود". وقوله: {يحفظونه من أمر اللّه} قيل: المراد حفظهم له من أمر اللّه، قاله ابن عباس، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير، وقال قتادة: {يحفظونه من أمر اللّه} يحفظونه بأمر اللّه، وقال كعب الأحبار: لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئا يقيه، ولولا أن اللّه وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطفتم، قال أبو أمامة: ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له. وقال أبو مجلز: جاء رجل إلى علي رضي اللّه عنه وهو يصلي، فقال: احترس، فإن ناساً يريدون قتلك، فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر له، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، إن الأجل جنة حصينة. وقال بعضهم: {يحفظونه من أمر اللّه} بأمر اللّه، كما جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول اللّه أرأيت رقيا نسترقي بها، هل ترد من قدر اللّه شيئاً؟ فقال: (هي من قدر اللّه)، وقال ابن أبي حاتم: (أوحى اللّه إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة اللّه فيتحولون منها إلى معصية اللّه إلا حوّل اللّه عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون(، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب اللّه: {إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} "أخرجه ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخغي موقوفاً، وقد ورد في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة".
الآية رقم (12 : 13)
{ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال . ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال }
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب، {خوفا وطمعا}، قال قتادة: خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته، وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق اللّه. {وينشئ السحاب الثقال} أي ويخلقها منشأة جديدة، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض، قال مجاهد: السحاب الثقال: الذي فيه الماء، {ويسبح الرعد بحمده}، كقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده}، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال: (اللهم لا تقلتنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك) "رواه الترمذي والنسائي عن إبراهيم النخعي موقوفاً، وقد ورد نحوه في حديث مرفوع رواه ابن أبي شيبة". وعن أبي هريرة رفعه، أنه كان إذا سمع الرعد قال: (سبحان من يسبح الرعد بحمده)، وعن عبد اللّه بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض "رواه مالك في الموطأ والبخاري في كتاب الأدب". وروى الطبراني عن ابن عباس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إذا سمعتم الرعد فاذكروا اللّه، فإنه لا يصيب ذاكراً)، وقوله تعالى: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء} أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء، ولهذا تكثر في آخر الزمان؛ كما قال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة، حتى يأتي الرجل القوم فيقول: من صعق قبلكم الغداة؟ فيقولون: صعق فلان وفلان وفلان)
وقد روي في سبب نزولها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب، فقال: (اذهب فادعه لي)، فذهب إليه فقال: يدعوك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له: من رسول اللّه؟ وما اللّه؟ أمن ذهب هو، أم من فضة هو، أم من نحاس هو؟ قال: فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره، فقال: يا رسول اللّه قد خبرتك أنه أعتى من ذلك، قال لي: كذا وكذا. فقال لي: (ارجع إليه ثانية)، فذهب فقال له مثلها، فرجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك؛ فقال: (ارجع إليه فادعه)، فرجع إليه الثالثة قال: فأعاد عليه الكلام، فبينما هو يكلمه إذ بعث اللّه عزَّ وجلَّ سحابة حيال رأسه فرعدت، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه، فأنزل اللّه عزّ وجلّ: {ويرسل الصواعق} الآية "رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي وابن جرير عن أنس رضي اللّه عنه وأخرجه الحافظ البزار بنحوه". وعن مجاهد قال: جاء يهودي فقال: يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو؟ أم من لؤلؤ، أو ياقوت؟ قال، فجاءت صاعقة فأخذته، وأنزل اللّه: {ويرسل الصواعق} الآية، وقال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن، وكذّب النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل اللّه صاعقة فأهلكته، وأنزل اللّه: {ويرسل الصواعق} الآية؛ وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة لما قدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر، فأبي عليهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له عامر بن الطفيل لعنه اللّه: أما واللّه لأملانها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (يأبى اللّه عليك وأبناء قيلة) يعني الأنصار، ثم أنهما همّا بالفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه، فحماه اللّه تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة، فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام، فأرسل اللّه على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأما عامر بن الطفيل فأرسل اللّه عليه الطاعون، فخرجت فيه غدة عظيمة، فجعل يقول: يا أهل عامر غدةٌ كغدة البكر، وموتٌ في بيت سلولية، حتى ماتا لعنهما اللّه، وأنزل اللّه في مثل ذلك: {ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في اللّه} "روى هذه القصة الحافظ الطبراني عن عطاء بن يسار عن ابن عباس مفصلة أكثر من هذا"، وقوله: {وهم يجادلون في اللّه} أي يشكون في عظمته وأنه لا إله إلا هو {وهو شديد المحال}. قال ابن جرير: شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه، وعتا وتمادى في كفره، وهذه الآية شبيهة بقوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين}، وعن علي رضي اللّه عنه: {وهو شديد المحال} أي شديد الأخذ؛ وقال مجاهد: شديد القوة.
الآية رقم (14)
{ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}
{ له دعوة الحق} التوحيد، لا إله إلا اللّه قاله ابن عباس وقتادة {والذين يدعون من دونه} أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير اللّه {كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه}، قال علي بن أبي طالب: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده، وهو لا يناله أبداً بيده، فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد: {كباسط كفيه} يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً، وقيل: المراد كقابض يده على الماء، فإنه لا يحكم منه على شيء، كما قال الشاعر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً، وإما متناولاً له من بعد، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع اللّه إلهاً غيره لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}.
الآية رقم (15)
{ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال }
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً من الكافرين، {وظلالهم بالغدو} أي البكور، {والآصال} وهو آخر النهار، كقوله تعالى: {أولم يروا إلى ما خلق اللّه من شيء يتفيؤ ظلاله} الآية.
الآية رقم (16)
{ قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار }
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم، وأولئك الآلهة لا تملك لا لنفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع اللّه ومن عبد اللّه وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال: {هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا للّه شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم} أي أجعل هؤلاء المشركون مع اللّه آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق، فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره، أي ليس الأمر كذلك، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله، ولا ندّ له ولا عدل، ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة، {تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا}، فأنكر تعالى عليهم ذلك، حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، {ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له}، {وكم من ملك في السموات} الآية، وقال: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا}، فإذا كان الجميع عبيداً
فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع فحقت كلمة العذاب لا محالة، {ولا يظلم ربك أحدا}.
الآية رقم (17)
{ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال }
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه فقال تعالى: {أنزل من السماء ماء} أي مطراً، {فسالت أودية بقدرها} أي أخذ كل واد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها {فاحتمل السيل زبدا رابيا}، أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عالٍ عليه؛ هذا مثل، وقوله: {ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع} الآية، هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة {ابتغاء حلية} أي ليجعل حلية أو نحاساً أو حديداً فيجعل متاعاً، فإنه يعلوه زبد منه، كما يعلو ذلك زبد منه، {كذلك يضرب اللّه الحق والباطل}، أي إذا اجتمعا لإثبات الباطل ولا دوام له، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب والفضة مما سبك في النار، بل يذهب ويضمحل، ولهذا قال: {فأما الزبد فيذهب جفاء} أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خَبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء، وذلك الذهب ونحوه ينتفع به، ولهذا قال: {وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللّه الأمثال}، كقوله تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. وقال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلاً من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن اللّه تعالى يقول: {وما يعقلها إلا العالمون}، قال ابن عباس: هذا مثل ضربه اللّه احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، وأما اليقين فينفع اللّه به أهله، وهو قوله: {فأما الزبد} وهو الشك {فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} وهو اليقين، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل اللّه اليقين ويترك الشك. وقال العوفي عن ابن عباس قوله: {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا} يقول: احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة، {ومما يوقدون عليه في النار} فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديث، فللنحاس والحديد خبث، فجعل اللّه مثل خبثه كزبد الماء، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، وكذلك الهدى والحق، جاءا من عند اللّه فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيع الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أُخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين اللّه ونفعه اللّه بما بعثني ونفع به فعلم وعلم؛ ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به)
الآية رقم (18)
{ للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد }
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء: {للذين استجابوا لربهم} أي أطاعوا اللّه ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا أخباره الماضية والآتية، فلهم {الحسنى} وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى: {وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا}، وقال تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}، وقوله: {والذين لم يستجيبوا له} أي لم يطيعوا اللّه، {لو أن لهم ما في الأرض جميعا} أي في الدار الآخرة، لو أنه يمكنهم أن يفتدوا من عذاب اللّه بملء الأرض ذهباً ومثله معه لافتدوا به، ولكن لا يتقبل منهم، لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً {أولئك لهم سوء الحساب} أي في الدار الآخرة، أي يناقشون على النقير والقطمير، والجليل والحقير، ومن نوقش الحساب عذب، ولهذا قال: {ومأواهم جهنم وبئس المهاد}.
الآية رقم (19)
{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب }
يقول تعالى لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي {أنزل إليك} يا محمد {من ربك} هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضاً، فأخباره كلها حق، وأوامره ونواهيه عدل، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد، ومن هو أعمى لا يهتدي
إلى خير ولا يفهمه، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدّقه ولا اتبعه، كقوله تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة}، وقال هنا: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} أي أفهذا كهذا؟ لا استواء. وقوله: {إنما يتذكر أولوا الألباب} أي إنما يتعظ ويعتبر أولو العقول السليمة الصحيحة؛ جعلنا اللّه منهم.
الآية رقم (20 : 24)
{ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرؤون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }
يقول تعالى مخبراً عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة {الذين يوفون بعهد اللّه ولا ينقضون الميثاق} وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان {والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل} من صلة الأرحام والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف، {ويخشون ربهم} أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال، يراقبون اللّه في ذلك ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة، فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم، {والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم} أي عن المحارم والمآئم ففطموا أنفسهم عنها للّه عزَّ وجلَّ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه، {وأقاموا الصلاة} بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي، {وأنفقوا مما رزقناهم} أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم، من زوجات وقرابات وأجانب، من فقراء ومحاويج ومساكين، {سرا وعلانية} أي في السر والجهر، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار، {ويدرؤون بالحسنة السيئة} أي يدفعون القبيح بالحسن، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبراً واحتمالاً وصفحاً وعفواً، كقوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عدواة كأنه ولي حميم}، ولهذا قال مخبراً عن هؤلاء السعداء المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار، ثم فسر ذلك بقوله: {جنات عدن} والعدن: الإقامة، أي جنات إقامة يخلدون فيها. وقال الضحاك في قوله: {جنات عدن} مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء، وأئمة الهدى والناس حولهم بعد والجنات حولها، وقوله: {ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم} أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتناناً من اللّه، وإحساناً من غير تنقيص للأعلى عن درجته، كما قال تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم} الآية. وقوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلّمين مهنئين لهم بما حصل لهم من اللّه من التقريب والإنعام، والإقامة في دار السلام، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
روى الإمام أحمد، عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق اللّه؟) قالوا: اللّه ورسوله أعلم، قال: (أول من يدخل الجنة من خلق اللّه الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول اللّه تعالى لمن يشاء من ملائكته: أئتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن
نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول: إنهم كانوا عباداً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء
- قال - فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}(، ورواه أبو القاسم الطبراني، عن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره، وإن اللّه يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبّح بحمدك الليل والنهار ونقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عزّ وجلّ: هؤلاء عبادي الذين جاهدوا في سبيلي، وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار})، وقد جاء في الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم: {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان.
الآية رقم (25)
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار }
هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر مآلهم في الآخرة، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد اللّه ويصلون ما أمر اللّه به أن يوصل، وهولاء {ينقضون عهد اللّه من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل ويفسدون في الأرض} كما ثبت في الحديث: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) ولهذا قال: {أولئك لهم اللعنة} وهي الإبعاد عن الرحمة {ولهم سوء الدار}، وهي سوء العاقبة والمآل {ومأواهم جهنم وبئس المهاد}. وقال أبو العالية: هي ست خصال في المنافقين، وإذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللّه بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر اللّه به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا
كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وأذا ائتمنوا خانوا.
الآية رقم (26)
{ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع }
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء، لما له في ذلك من الحكمة والعدل،
وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً كما قال: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}، ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخر تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال: {وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع}، كما قال: {قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا}، وقال: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى}، وقال الإمام أحمد، عن المستورد أخي بني فهر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع)، وأشار بالسبابة "أخرجه مسلم في صحيحه"، وفي الحديث الآخر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر بجدي أسك ميت، والأسك الصغير الأذنين، فقال: (واللّه للدنيا أهون على اللّه من هذا على أهله حين ألقوه) "أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه".
الآية رقم (27 : 29)
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب . الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب . الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب }
يخبر تعالى عن المشركين قولهم {لولا} أي هلا، {أنزل عليه آية من ربه}، كقولهم: {فليأتنا بآية كما أرسل الأولون} وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة، وأن اللّه قادر على إجابة ما سألوا؛ {قل إن اللّه يضل من يشاء، ويهدي إليه من أناب} أي هو المضل والهادي، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا، أو لم يجبهم إلى سؤالهم، فإن الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك، كما قال: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}، وقال: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه ولكن أكثرهم يجهلون}، ولهذا قال: {قل إن اللّه يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} أي ويهدي إليه من أناب إلى اللّه، ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه، {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر اللّه} أي تطيب وتركن إلى جانب اللّه وتسكن عند ذكره، وترضى به مولى ونصيراً، ولهذا قال: {ألا بذكر اللّه تطمئن القلوب} أي هو حقيقي بذلك، وقوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب}، قال ابن عباس: فرجٌ وقرة عين، وقال عكرمة: نعم ما لهم، وقال الضحاك: غبطة لهم. وقال
إبراهيم النخعي: خير لهم، وقال قتادة: يقول الرجل: طوبى لك، أي أصبت خيراً، وقيل: حسنى لهم، {وحسن مآب} أي مرجع، وهذه الأقوال لا منافاة بينها، وروى السدي عن عكرمة: طوبى لهم هي الجنة، وبه قال مجاهد.
وروى ابن جرير، عن شهر بن حوشب قال: طوبى هي شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها أغصانها، وهكذا روى غير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها، وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة وأمرها أم تمتد، فامتدت إلى حيث يشاء اللّه تبارك وتعالى، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن. وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، قال: فحدثت بها النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها) وفي صحيح البخاري عن أنَس رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قول اللّه تعالى: {وظل ممدود} قال: (في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)
الآية رقم (30)
{ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب }
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة {لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك} أي تبلغهم رسالة اللّه إليهم كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة باللّه، وقد كذب الرسل من قبلك فلك بهم أسوة، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم، قال اللّه تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} أي كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، وقوله: {وهم يكفرون بالرحمن} أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به، لأنهم كانوا يأنفون من وصف اللّه بـ{الرحمن الرحيم} ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم اللّه الرحمن الرحيم، وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم "قاله قتادة، والحديث في صحيح البخاري". وفي صحيح مسلم: (إن أحب الأسماء إلى اللّه عبد اللّه وعبد الرحمن) {قل هو ربي لا إله إلا هو} أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والإلهية، هو ربي لا إله إلا هو {عليه توكلت} أي في جميع أموري، {وإليه متاب} أي إليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.
الآية رقم (31)
{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد }
يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد صلى اللّه عليه وسلم ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها، أو تقطع به الأرض وتنشق أو تكلم به الموتى في قبورها، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك، لما فيه من الإعجاز الذي لا يسطتيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من مثله، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له، {بل للّه الأمر جميعا} أي مرجع الأمور كلها إلى اللّه عزَّ وجلَّ ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع، وفي الحديث الصحيح، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدابته أن تسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه) "أخرجه البخاري وأحمد عن أبي هريرة"، (1)، وقوله:
{أفلم ييأس الذين آمنوا} أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا {أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا} فإنه ليس ثمّ حجة ولا معجزة، أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس، من هذا القرآن الذي لو أنزله اللّه عزَّ وجلَّ على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اللّه، وثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه اللّه إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء.
وروى أن المشركين قالوا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم: لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه، فأنزل اللّه هذه الآية: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} "رواه ابن أبي حاتم، وبه قال ابن عباس والشعبي وقتادة وغير واحد في سبب نزول هذه الآية". وقال قتادة: لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم، وقوله: {بل لله الأمر جميعا} قال ابن عباس: أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل. وقال غير واحد من السلف في قوله: {أفلم ييأس الذين آمنوا} أفلم يعلم الذين آمنوا، وقوله: {ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم} أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا، كما قال تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون}، قال الحسن: {أو تحل قريبا من دارهم}: أي القارعة، وهذا هو الظاهر من السياق، وقال العوفي عن ابن عباس {تصيبهم بما صنعوا قارعة} قال: عذاب من السماء ينزل عليهم، {أو تحل قريبا من دارهم} يعني نزول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم وقتاله إياهم؛ وقال عكرمة في رواية عنه {قارعة}: أي نكبة، {حتى يأتي وعد الله} يعني فتح مكة، وقال الحسن البصري: يوم القيامة، وقوله: {إن اللّه لا يخلف الميعاد} أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة: {فلا تحسبن اللّه مخلف وعده رسله إن اللّه عزيز ذو انتقام}.
الآية رقم (32)
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب }
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه: {ولقد استهزئ برسل من قبلك} أي فلك فيهم أسوة، {فأمليت للذين كفروا} أي أنظرتهم وأجلتهم، {ثم أخذتهم} أخذة رابية فكيف بلغك ما صنعت بهم وكيف كان عقابي لهم؟ كما قال تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}. وفي الصحيحين: (إن اللّه ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}.
الآية رقم (33)
{ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد }
يقول تعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى عليه خافية {ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه}، وقال تعالى: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها}، وقال: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار}، وقال: {يعلم السر وأخفى}، وقال: {وهو معكم أين ما كنتم واللّه بما تعلمون بصير}، أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تكشف ضراً عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه، وهو قوله: {وجعلوا للّه شركاء} أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان، {قل سموهم} أي أعلمونا بهم واكشفوا عنهم حتى يعرفوا فإنهم لا حقيقة لهم، ولهذا قال: {أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض} أي لا وجود له، لأنه لو كان لها وجود في الأرض لعلمها، لأنه لا تخفى عليه خافية {أم بظاهر من القول}، قال مجاهد: بظنٍّ من القول، وقال الضحاك وقتادة: بباطل من القول، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة، {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان}، {بل زين للذين كفروا مكرهم} قال مجاهد: قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار، كقوله تعالى: {وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم} الآية، {وصدوا عن السبيل} أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه صدوا به عن سبيل اللّه، ولهذا قال: {ومن يضلل اللّه فما له من هاد}، كما قال: {ومن يرد اللّه فتنته فلن تملك له من اللّه شيئا}، وقال: {إن تحرص على هداهم فإن اللّه لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين}.
الآية رقم (34 : 35)
{ لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق . مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار }
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك: {لهم عذاب في الحياة الدنيا} أي بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً، {ولعذاب الآخرة} أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا {أشق} أي من هذا بكثير كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
وسلم للمتلاعنين: (إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)، وهو كما قال صلوات اللّه وسلامه عليه: فإن عذاب الدنيا له انقضاء، وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته، كما قال تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}، وقال تعالى: {وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا} ولهذا قرن هذا بقوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون} أي صفتها ونعتها {تجري من تحتها الأنهار} أي سارحة في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً، أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا، كقوله: {مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن} الآية، وقوله: {أكلها دائم وظلها} أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء. وفي الصحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه قالوا: يا رسول اللّه رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت، فقال: (إني رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) وقال الحافظ أبو يعلى، عن جابر قال: بينما نحن في صلاة الظهر، إذ تقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتقدمنا، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب: يا رسول اللّه صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما رأيناك كنت تصنعه، فقال: (إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من زهرة والنضرة، فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه)
وروى الإمام أحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: (نعم، والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم
ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة)، قال: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة الأذى، قال: (تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه)، وعن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه قال، قال لي رسول اللّه صلى اللّه
عليه وسلم: (إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً)، وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائراً كما كان بإذن اللّه تعالى، وقد قال الله تعالى: {وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة}، وقال: {ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا}، وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال اللّه تعالى: {لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا}. وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها) ثم قرأ: {وظل ممدود} وكثيراً ما يقرن اللّه تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده: {تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار}، كما قال اللّه تعالى: {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون}.
الآية رقم (36 : 37)
{ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب . وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق }
يقول تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب} وهم قائمون بمقتضاه {يفرحون بما أنزل إليك} أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة، كما قال تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا - إلى قوله - إن كان وعد ربنا لمفعولا} أي إن كان ما وعدنا اللّه به في كتبنا من إرسال محمد صلى اللّه عليه وسلم لحقاً وصدقاً مفعولاً لا محالة وكائناً وقوله: {ومن الأحزاب من ينكر بعضه} أي ومن الطوائف من يكذب بعض ما أنزل إليك، وقال مجاهد {ومن الأحزاب}: أي اليهود والنصارى {من ينكر بعضه} أي بعض ما جاءك من الحق، وهذا كما قال تعالى: {وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه} الآية، {قل إنما أمرت أن أعبد اللّه ولا أشرك به}، أي إنما بعثت بعبادة اللّه وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، {إليه أدعو} أي إلى سبيله أدعو الناس، {وإليه مآب} أي مرجعي ومصيري، وقوله: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكماً معرباً شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي، الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. وقوله: {ولئن اتبعت أهواءهم} أي آراءهم {بعد ما جاءك من العلم} أي من اللّه سبحانه، {ما لك من اللّه من ولي ولا واق}، وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية، والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
الآية رقم (38 : 39)
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب . يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } يقول تعالى: وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرياً، كذلك قد بعثنا المرسلين من قبلك بشراً يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزوجات، ويولد لهم، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي}، وفي الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) وقوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} أي لم يكن يأتي قومه بخارق، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه بل إلى اللّه عزّ وجلّ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، {لكل أجل كتاب} أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها وكل شيء عنده بمقدار، {ألم تعلم أن اللّه يعلم ما في السموات والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على اللّه يسير}. وكان الضحاك يقول: {لكل أجل كتاب}: أي لكل كتاب أجل، يعني لكل كتاب أنزل من السماء مدة مضروبة عند اللّه ومقدار معين، فلهذا {يمحو اللّه ما يشاء} منها {ويثبت} يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله اللّه على رسوله صلوات اللّه وسلامه عليه، وقوله: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت} اختلف المفسرون في ذلك: فقال الثوري، عن ابن عباس: يدبر أمر السنة، فيمحو اللّه ما يشاء، إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت. وفي رواية {يمحو اللّه ويثبت} قال: كل شيء إلا الموت والحياة، والشقاء والسعادة، فإنه قد فرغ منهما وهذا قول مجاهد أيضاً حيث قال: إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة فإنهما لا يتغيران}، وقال منصور: سألت مجاهداً فقلت: أرأيت دعاء أحدنا، يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم، واجعله في السعداء، فقال: حسن؛ ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك، فقال: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} الآيتين، قال: يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو معصية، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء، فأما كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير، وقال الأعمش عن أبي وائل: إنه كان كثيراً يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب "أخرجه ابن جرير"، وقال ابن جرير، عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة. ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ اللّه ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد، عن ثوبان قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر) "رواه أحمد والنسائي وابن ماجه"وثبت في الصحيح أن صلة الرحم يزيد في العمر، وفي حديث آخر: (إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض) وقال الكلبي: يمحو الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، وقال العوفي عن ابن عباس: هو الرجل يعمل بطاعة اللّه، ثم يعود لمعصية اللّه فيموت على ضلالة، فهو الذي يمحو؛ والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة اللّه وهو الذي يثبت. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت} يقول: يبدل ما يشاء فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله {وعنده أم الكتاب}، وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب، وقال مجاهد: قالت كفار قريش لما نزلت {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}: ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فرغ من الأمر، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم: إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ونحدث في كل رمضان، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم. وقال الحسن البصري {يمحو اللّه ما يشاء ويثبت} قال: من جاء أجله يذهب ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله، وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه اللّه، وقوله: {وعنده أم الكتاب} قال: الحلال والحرام، وقال قتادة: أي جملة الكتاب وأصله، وقال ابن جريج عن ابن عباس: {وعنده أم الكتاب} قال: الذكر.
الآية رقم (40 : 41)
{ وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب . أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب } يقول تعالى لرسوله: {وإما نرينك} يا محمد بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا، {أو نتوفينك} أي قبل ذلك {فإنما عليك البلاغ} أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة اللّه وقد فعلت ما أمرت به {وعلينا الحساب} أي حسابهم وجزاؤهم كقوله تعالى: {إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم}. وقوله: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال ابن عباس: أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى اللّه عليه وسلم الأرض بعد الأرض، وقال مجاهد وعكرمة: ننقصها من أطرافها} قال: خرابها، وقال الحسن والضحاك: هو ظهور المسلمين على المشركين، وقال نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض، وقال الشعبي: لو كانت الأرض تنتقص لضاق عليك حشك الحُشّ والحِش: البستان، قال في القاموس: الحُشُّ مثلثة: المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات، وقال ابن عباس في رواية: خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. وكذا قال مجاهد أيضاً: هو موت العلماء، وأنشد أحمد بن نمزال: الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها * متى يمت عالم منها يمت طرف كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها * وإن أبى عاد في أكنافها التلف والقول الأول أولى، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية، كقوله: {ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى} الآية، وهذا اختيار ابن جرير.
الآية رقم (42)
{ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار } يقول تعالى: {وقد مكر الذين من قبلهم} برسلهم وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر اللّه بهم جعل العاقبة للمتقين كقوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية، وقوله تعالى: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون} وقوله: {يعلم ما تكسب كل نفس} أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله، {وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار} أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل، كلا، بل هي لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة وللّه الحمد والمنة.
الآية رقم (43)
{ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } يقول تعالى: يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون: {لست مرسلا} أي ما أرسلك اللّه، {قل كفى باللّه شهيدا بيني وبينكم} أي حسبي اللّه هو الشاهد عليّ وعليكم، شاهد عليّ فيما بلّغت عنه من الرسالة، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان، وقوله: {ومن عنده علم الكتاب} قيل نزلت في عبد اللّه بن سلام، وهذ القول غريب، لأن هذه الآية مكية، وعبد اللّه بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة، والأظهر في هذا ما قاله ابن عباس: هم من اليهود والنصارى، وهو يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به، كما قال تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذين يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} الآية، وقال تعالى: {أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل}، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل إنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة.