الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
قَالَ شَيخ الإسْلام ـ أسْكَنَه الله الجَنّة آمين : بسم الله الرحمن الرحيم، ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
في الجواب عما كتب على نسخة جواب الفتيا، وبيان بطلان ذلك، وأن الحكم به باطل بإجماع المسلمين من وجوه كثيرة، قد بسطت في غير هذا الموضع. وهي خمسون وجهًا: تبين بطلان ما كتب به، وبطلان الحكم به. الأول: أنه نقل عن الجواب ما ليس فيه، ورتب الحكم على ذلك النقل الباطل. ومثل هذا باطل بالإجماع؛ فإنه نقل أن المجيب قال: إن زيارة الأنبياء بدعة، أو أنه ذكر نحو ذلك، والمجيب لم يذكر ذلك، ولا نقل ذلك عن أحد من العلماء، وإنما في الجواب ذكر قول العلماء فيمن سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين: هل يحرم هذا السفر، أو يجوز، وأن الطائفتين اتفقوا على أنه غير مستحب، والطائفتان لم يقولا ذلك في الزيارة المطلقة، بل جمهورهم يقولون: إن زيارة القبور مستحبة، وهذا هو الصحيح، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولكن لا يقولون: إنه يستحب السفر إليها، كما اتفق المسلمون على أنه يشرع إتيان المساجد غير المساجد الثلاثة، وأن إتيانها /قد يكون فرضًا، وقد يكون سنة؛ مثل إتيانها للجمعة والجماعة. واتفقوا على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة ليس بفرض ولا سنة، فهكذا زيارة القبور على الوجه الشرعي مستحبة، وهي سنة، والسفر إلى ذلك ليس بفرض ولا سنة عند الطائفتين. والمجيب لم يذكر لنفسه في الجواب قولاً، بل حكي أقوال علماء المسلمين، وأدلتهم، وهؤلاء نقلوا عنه ما لم يقله، واستدلوا بما لا ينازع فيه، وأخطؤوا فيما نقلوه وفهموه من كلام من نقل الإجماع، وفيما استدلوا به عليه، وذلك من وجوه كثيرة جدًا، ولكن مقصود هذا الوجه: أن الذي كتب على الجواب نقل عنه أنه هو القائل، وأنه قال: إن زيارة الأنبياء بدعة ، وهذا باطل عنه. والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع. الوجه الثاني: أن الطائفتين من علماء المسلمين اتفقوا على أن السفر لمجرد زيارة القبور ليس بفرض ولا سنة، وهؤلاء جعلوا السفر إلى زيارة القبور سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسن لأمته السفر لذلك، ولا قال علماء شريعته: إن السفر إليها سنة. فقد حكموا بما يخالف السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع. وذلك أن المجيب ذكر القولين ـ فيمن لم يسافر إلا إلى القبور، ولم يقصد مع ذلك المسجد ـ قول من جوز ذلك ولم يستحبه /وقول من حرمه. وهم لم يقتصروا على رد أحد القولين، فإن هذا لا يناقض ما ذكره المجيب، بل قالوا: وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء، ومتي ما بطل ما ذكره في الجواب بالقولين، تعين جعل السفر سنة مستحبة. وأيضًا، فإنهم احتجوا بنقل من نقل الإجماع على استحباب السفر الذي ذكر فيه القولين. الثالث: أنهم احتجوا بنقل من نقل من العلماء أن زيارة النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة مرغب فيها وسنة مجمع عليها. وهؤلاء نقلوا الإجماع على الزيارة، لا على السفر لمجرد القبر. ولو نقلوا الإجماع على السفر للزيارة فمعلوم أن المسلمين يقصدون المسجد والقبر، لا يقصد القبر دون المسجد إلا جاهل، وإذا قصد الزائر المسجد والقبر جميعًا فالمجيب لم يذكر القولين في هذه الصورة، وإنما ذكرهما فيمن لم يسافر إلا لمجرد زيارة القبور، والجواب لم يكن في خصوص قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان في جنس القبور. وجعلوا ذلك إجماعًا على السفر إلى سائر قبور الأنبياء، فإن المجيب فرق بين الزيارة النبوية الشرعية التي أجمع المسلمون على استحبابها، وبين ما أجمعوا على أنه لا يستحب، وما تنازعوا فيه، وما نقلوه من الإجماع وإن كان عندهم لا يدل على مثل ما ذكره المجيب لم يكن حجة عليه، وهم جعلوه حجة /على بطلان الجواب،وذلك إنما يكون إذا قيل باستحباب السفر مطلقًا فغلطوا على من نقل الإجماع فلم يفهموا مراده، وحكموا بناء على هذا الاعتقاد الباطل، ومثل ذلك باطل بالإجماع. الرابع: أنهم جعلوا هذا النقل مخالفًا للجواب، وليس مخالفًا له، بل المفتي قد ذكر في الجواب استحباب العلماء لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحك عن أحد أنه قال: زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم محرمة، والحكم المرتب على النقل الباطل باطل بالإجماع. الخامس: أن هؤلاء جعلوا جنس الزيارة مستحبًا بالإجماع، ولم يفصلوا بين المشروع والمحرم، والزيارة بعضها مشروع وبعضها محرم بالإجماع، كما ذكر ذلك في جواب الفتيا، وهم أنكروا هذا التفصيل، وهذا مخالف للإجماع والحكم به باطل بالإجماع. فإن المجيب لم ينكر السفر للزيارة الشرعية بالإجماع، بل بين في الجواب ما أجمع عليه المسلمون من السفر، ومن الزيارة. وهذا مبسوط في مواضع كثيرة من كلامه، مشهور عنه. وذكر ما تنازعوا فيه، وما اتفقوا على النهي عنه. فلو وافقوا على التفصيل لم ينكروا الجواب، فلما جعلوا الجواب باطلا عند العلماء تبين أنهم لم يفصلوا. /السادس: أن الزيارة ثلاثة أنواع: نوع اتفق العلماء على استحبابه، ونوع اتفقوا على النهي عنه، ونوع تنازعوا فيه. وفي الجواب ذكر الأنواع الثلاثة. وهؤلاء لم يفصلوا بين ما أجمع عليه وبين ما تنازع العلماء فيه، ولا ذكروا أن ما تنازع فيه العلماء يرد إلى الله والرسول، بل جعلوه مردودًا بمجرد قولهم، وهذا باطل بالإجماع. والحكم بذلك باطل بالإجماع. والمجيب إنما ذكر اتفاق الطائفتين على أن السفر غير مستحب إذا سافر لمجرد زيارة قبر بعض الأنبياء والصالحين، وهذا منتف في الغالب في قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن من هو عارف بشريعة الإسلام لابد أن يقصد المسجد مع القبر، لاسيما مع علمه بأنه صلى الله عليه وسلم قال: (صـلاة في مسـجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام). ولهذا احتج طائفة من العلماء على استحباب زيارة قبره بهذا الحديث. وهذه الزيارة التي يفعلها من يعلم الشريعة لم يذكر المجيب أنها لا تستحب بالإجماع. وكيف يقول ذلك واستحبابها موجود في كلام العلماء؟! السابع: أن الإجماع على أن الزيارة سنة وفضيلة ليس هو إجماعًا على كل ما يسمي زيارة، ولا على هذا اللفظ، بل هو إجماع على ما شرعه الله من حقوقه في مسجده. وهل يكره أن يسمي ذلك زيارة لقبره على قولين. وكثير مما يسمي زيارة لقبره فيه نزاع أو هو منهي /عنه بالإجماع، وهؤلاء جعلوا الإجماع متناولا لما تنازع العلماء فيه، واحتجوا بالإجماع في موارد النزاع، وهذا خطأ. الثامن: أن ما تنازع فيه العلماء يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوه إلى الله ولا إلى الرسول، بل قالوا: إنه كلام باطل مردود على قائله بلا حجة من كتاب الله ولا سنة رسوله وهذا باطل بالإجماع. التاسع: أن الذين حكوا الإجماع على استحباب السفر لمجرد زيارة القبر بل الإجماع، إنما هو على استحباب السفر إلى مسجده. وأما السفر لمجرد القبر فهذا فيه النزاع المشهور. وما فيه نزاع يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع العلماء فيه إلى الله والرسول، بل ادعوا فيـه الإجماع وغلطوا على مـن حكوا عنه الإجماع، ومن زجر عن قول لكونه مخالفًا للإجماع ولم يكن مخالفًا للإجماع كان هو المخطئ بالإجماع. العاشر: أن ما لا إجماع فيه يجب رده إلى الله والرسول بالإجماع، وإن احتج فيه بالكتاب والسنة كان هو المصيب، والجواب فيه ذكر النزاع والاحتجاج بالكتاب والسنة في موارد النزاع، وهؤلاء جعلوا ذلك مردودًا، ولم يردوه إلى الله والرسول، بل ردوا على من احتج /بالكتاب والسنة في مسائل النزاع، وحكموا بهذا الرد المخالف للإجماع. والحكم بمثل ذلك باطل بالإجماع. الحادي عشر: أن الذي ذكر في الفتيا ما أجمع عليه كالزيارة المستحبة، وما أجمعوا على النهي عنه، وما تنازعوا فيه، وهذا أقصي ما يكون عند المفتين. وهؤلاء جعلوا ذلك من الفتاوي الباطلة عند العلماء، وهذا التفصيل ليس باطلا عند أحد من علماء المسلمين، وهم جعلوه باطلا، وحكموا بذلك، ومثل هذا الحكم باطل بالإجماع. الثاني عشر: أن ما تنازع فيه العلماء ليس لأحد من القضاة أن يفصل النزاع فيه بحكم، وإذا لم يكن لأحد من القضاة أن يقول: حكمت بأن هذا القول هو الصحيح، وأن القول الآخر مردود على قائله، بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين أو أجمعوا عليه، قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالمًا، وإن كان مقلدًا كان بمنزلة العامة المقلدين، والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالمًا مجتهدًا عالمًا مجتهدًا، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولاية والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين. فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدعي ذلك لنفسه، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله. فمن هو دون السلطان في الولاية أولي بألا يتعدي /طوره، ولا يقيم نفسه في منصب لا يستحق القيام فيه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى ـ وهم الخلفاء الراشدون ـ فضلا عمن هو دونهم؛ فإنهم ـ رضي الله عنهم ـ إنما كانوا يلزمون الناس باتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: إنما بعثت عمالي ـ أي نوابي ـ إليكم ليعلموكم كتاب ربكم، وسنة نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم. بل هذه يتكلم فيها من علماء المسلمين من يعلم ما دلت عليه الأدلة الشرعية؛ والكتاب والسنة. فكل من كان أعلم بالكتاب والسنة فهو أولي بالكلام فيها من غيره، وإن لم يكن حاكمًا،والحاكم ليس له فيها كلام لكونه حاكمًا، بل إن كان عنده علم تكلم فيها كآحاد العلماء. فهؤلاء حكموا فيما ليس لهم فيه الحكم بالإجماع وهذا من الحكم الباطل بالإجماع. الثالث عشر: أن الأحكام الكلية التي يشترك فيها المسلمون ـ سواء كانت مجمعًا عليها أو متنازعًا فيها ـ ليس للقضاة الحكم فيها، بل الحاكم العالم كآحاد العلماء يذكر ما عنده من العلم، وإنما يحكم القاضي في أمور معينة. وأما كون هذا العمل واجبًا أو مستحبًا أو محرمًا فهذا من الأحكام الكلية التي ليس لأحد فيها حكم إلا لله ورسوله. وعلماء المسلمين يستدلون على حكم الله ورسوله بأدلة ذلك. وهؤلاء حكموا في الأحكام الكلية، وحكمهم في ذلك / باطل بالإجماع. الرابع عشر: أن الكلام في هذه المسائل الكلية، إنما يجوز لمن كان عالمًا بأقوال علماء المسلمين فيها، وما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، عالمًا بالكتاب والسنة، ووجه الاستدلال بهما. وكلام هؤلاء يتضمن أنهم لا يعرفون ما قاله علماء المسلمين في هذه المسائل، ولا يميزون بين ما أجمع عليه العلماء وتنازعوا فيه، ولا يعرفون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسائل، ولا يفرقون بين ما رغب فيه وما نهي عنه ولم يسنه، ولا يعرفون الأحاديث الصحيحة والضعيفة في هذا الباب، بل ولا يعرفون مذهبهم في هذه المسائل، ولا عندهم نقل عن الأئمة الأربعة، ولا العلماء المشهورين من أتباعهم فيما قالوه وحكموا به، بل هم فيه بمنزلة آحاد المتفقهة الطلبة الذين ينبغي لهم طلب علم هذه المسائل، بل لا يجوز لأحدهم أن يفتي فيها، ولا يناظر، ولا يصنف، فضلا عن أن يحكم. ومعلوم أن من كان كذلك وحكم فيما ليس له الحكم فيه كان حكمه محرمًا بالإجماع، فكيف إذا حكم فيما ليس له فيه الحكم، وحكم بخلاف الإجماع؛ فإن الحاكم إذا حكم بغير اجتهاد ولا تقليد كان حكمه محرمًا بالإجماع. الخامس عشر: أن القاضي يجب أن يكون مجتهدًا عند بعض /العلماء، وعند بعضهم يجوز له التقليد للعلماء؛ وهؤلاء لو كانت هذه المسائل مما لهم فيه الحكم فهم لم يقلدوا ـ فيما قالوه ـ أحدًا من أئمة المسلمين، فضلاً أن يكونوا فيه مجتهدين، بل حكموا بغير اجتهاد ولا تقليد، وهذا الحكم الباطل بالإجماع، ولو كان على يهودي عشرة دراهم معينة، فكيف إذا حكموا على علماء المسلمين في الأحكام الكلية التي لا حكم لهم فيها بالإجماع. السادس عشر: لو كان لهم فيها الحكم وقد حكموا بالكتاب والسنة والإجماع، لم يكن لهم الحكم حتى يسمعوا كلام المحكوم عليه وحجته، ويعذروا إليه، وهل له جواب أم لا؟ فإن العلماء تنازعوا في الحقوق كالأموال هل يحكم فيها على غائب؟ على قولين. ومن جوز الحكم عليه قال: هو باق على حجته تسمع إذا حضر. فأما العقوبات والحدود فلا يحكم فيها على غائب، وهؤلاء حكموا على غائب في ذلك، ولم يمكنوه من سماع كلامه والإدلاء بحجته، وهذا لو كان على يهودي كان حكمًا باطلاً بالإجماع. ولهذا كان جميع الناس أهل العلم والدين والعقل ينكرون مثل هذا الحكم، ويعلمون أنه حكم بغير حق. السابع عشر: أنه لو كان الحاكم خصمًا لشخص في حق من الحقوق لم يجز أن يحكم الحاكم على خصمه بإجماع المسلمين، وكذلك [المسائل العلمية] إذا تنازع حاكم وغيره من العلماء في تفسير آية أو / حديث أو بعض مسائل العلم لم يكن للحاكم أن يحكم عليه بالإجماع، فإنهما خصمان فيما تنازعا فيه، والحاكم لا يحكم على خصمه بالإجماع. الثامن عشر: أن هذه المسائل منقولة في كتب أهل العلم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهؤلاء حكموا فيها بخلاف مذاهب الأئمة الأربعة ولم يعرفوا مذاهب أئمتهم، ولا مذاهب غيرهم من الأئمة والعلماء ولا ما دلت عليه السنة والآثار. ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بالإجماع، ومن ادعي منهم أن الذي حكم به هو قول العلماء فليكتب خطه بذلك، وليذكر ما ذكره العلماء فيها من إجماع ونزاع وأدلة ذلك؛ ليتبين أن الذي يقول بخلاف جواب المفتي قولاً باطلاً، وإلا فقد علم أنهم حكموا بغير الحق، وهذا باطل بالإجماع. التاسع عشر: أنه لو كان أحدهم عارفًا بمذهبه لم يكن له أن يلزم علماء المسلمين بمذهبه، ولا يقول: يجب عليكم أنكم تفتون بمذهبي، وأنه أي مذهب خالف مذهبي كان باطلا، من غير استدلال على مذهبه بالكتاب والسنة. ولو قال: من خالف مذهبي فقوله مردود، ويجب منع المفتي به وحبسه لكان مردودًا عليه، وكان مستحقًا العقوبة على ذلك بالإجماع، فكيف إذا كان الذي حكم به ليس هو مذهب أحد من الأئمة الأربعة؟! بل الذي أفتي به المفتي هو موافق للإجماع، دون من أنكر قوله وخالف الإجماع. /الوجه العشرون: أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أخطأ في مائة مسألة لم يكن ذلك عيبًا، وكل من سوي الرسول صلى الله عليه وسلم يصيب ويخطئ. ومن منع عالمًا من الإفتاء مطلقًا، وحكم بحبسه لكونه أخطأ في مسائل، كان ذلك باطلاً بالإجماع. فالحكم بالمنع والحبس حكم باطل بالإجماع. فكيف إذا كان المفتي قد أجاب بما هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول علماء أمته؟! الحادي والعشرون: أن المفتي لو أفتي في المسائل الشرعية ـ مسائل الأحكام ـ بما هو أحد قولي علماء المسلمين، واستدل على ذلك بالكتاب والسنة، وذكر أن هذا القول هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، دون القول الآخر ـ في أي باب كان ذلك، من مسائل البيوع، والنكاح، والطلاق، والحج، والزيارة، وغير ذلك ـ لم يكن لأحد أن يلزمه بالقول الآخر بلا حجة من كتاب أو سنة، ولا أن يحكم بلزومه، ولا منعه من القول الآخر بالإجماع. فكيف إذا منعه منعًا عامًا، وحكم بحبسه؟ فإن هذا من أبطل الأحكام بإجماع المسلمين. الثاني والعشرون: أن الحاكم لو ظن الإجماع فيما ليس فيه إجماع، وألزم الناس بذلك القول لظنه أنه مجمع عليه، ولم يستدل على ذلك بكتاب أو سنة، وكان فيه نزاع لم يعلمه، لكان مخطئًا في إلزام الناس / بذلك بالإجماع، إلا أن يدل عليه كتاب أو سنة. الثالث والعشرون: أن الحاكم متي خالف نصًا أو إجماعًا نقض حكمه باتفاق الأئمة، وحكم هؤلاء خالف النص والإجماع من وجوه كثيرة فهو مستحق للنقض بالإجماع. الرابع والعشرون: أن هذا الحكم وأمثاله هو مثل ما تقدم من الحكم مرة بعد مرة في بعض ما هو في نظيره هذه القضية، وكل واحد من تلك الأحكام باطل بالإجماع من وجوه كثيرة، فكذلك هذا. الخامس والعشرون: أن هذه الأحكام ـ مع أنها باطلة بالإجماع ـ فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، وعلى ولاة أمورهم، مؤذية لهم، جالبة للفتن بين المسلمين. والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة. فيجب نقضه بالإجماع. السادس والعشرون: أن ما يحصل به أذي للمسلمين إذا كان مما أمر الله به ورسوله كانوا مطيعين في ذلك لله ورسوله، وأجرهم فيه على الله، كالجهاد. أما إذا كان الذي يؤذيهم مما لم يأمر به الله ولا رسوله وجب رده بالإجماع. ومثل هذه الأحكام المؤذية للمسلمين وولاة أمورهم، /وهي مخالفة للسنة والإجماع، فيجب ردها بالإجماع. السابع والعشرون: أنهم قالوا: إن هذا المفتي ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوي الباطلة عند العلماء والأئمة الكبار. وقولهم هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار. ومن ادعي أن قول العلماء والأئمة الكبار هو الباطل عند العلماء والأئمة الكبار كان قوله وحكمه به باطلا بالإجماع. فإن هذه الفتيا هي قول العلماء والأئمة الكبار؛ فيها قول مالك وغيره من الأئمة الكبار. والقول الآخر ليس للعلماء والأئمة الكبار، قول إلا ما ذكر فيها، وما ذكروه لا يعرف عن أحد من العلماء والأئمة الكبار. الثامن والعشرون: أنهم قالوا: يمنع من الفتاوي الغريبة المردودة عند الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين. والحكم به باطل بالإجماع؛ فإن الأئمة الأربعة متفقون على أنه إنما ينقض حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو معني ذلك. فأما ما وافق قول بعض المجتهدين في [مسائل الاجتهاد] فإنه لا ينقض لأجل مخالفته قول الأربعة، وما يجوز أن يحكم به الحاكم يجوز أن يفتي به المفتي بالإجماع، بل الفتيا أيسر؛ فإن الحاكم يلزم، والمفتي لا يلزم. فما سوغ الأئمة الأربعة للحاكم أن يحكم به فهم يسوغون للمفتي أن يفتي بـه بطريق الأولي والأحري، ومن حكم بمنع الإفتاء بذلك فقد خالف الأئمة الأربعة وسائر أئمة المسلمين. فما قالوه هو المخالف للأربعة وسائر أئمة المسلمين،/ فهو باطـل بالإجماع. التاسع والعشرون: أن جميع المذاهب فيها أقوال قالها بعض أهلها ليست قولاً لصاحب المذهب، وفيها جميعها ما هو مخالف لقول الأربعة، وهم يحكون ذلك قولا في المذهب، ولا يحكمون ببطلانه إلا بالحجة، لاسيما إذا خرج على أصول صاحب المذهب وبين من نصوصهم ما يقتضي ذلك، كما يفعله أتباعهم في كثير من المسائل. والمجيب قد ذكر من كلام الأئمة الأربعة ومن قبلهم ـ ممن يعظمونهم من العلماء ـ وكلام من تقدمهم ما يعرف به أقوال علماء المسلمين. فإبطال القول لمجرد مخالفته للأربعة هو مخالف لأقوال الأربعة، ولأتباع الأئمة الأربعة، فهو باطل بالإجماع. الوجه الموفي ثلاثين: أن ما أنكروه في مسائل الزيارة ومسائل الطلاق من فتاوي المفتي المدلول ليس فيها شيء يخرج عن المذاهب الأربعة، بل إما أن يكون ما أفتي به قول جميع أهل المذاهب الأربعة ـ كالذي أفتي في هذه المسألة ـ مسألة الزيارة ـ فإن الذي قاله هو قول جميع أهل المذاهب الأربعة ، بل وقول جميع علماء المسلمين قد ذكروا ما أجمعوا عليه وما تنازعوا فيه ـ وإما أن يكون ما أفتي به فيها قول بعض الأئمة الأربعة ، أو بعض المنتسبين إليهم ، كمسائل الطلاق ، فإن مسائـل النزاع فيهـا قـد تنازع فيهـا أهـل المذاهب الأربعـة ، والمفتي /المذكور لم يفت فيها إلا بما قاله بعضهم، وما يمكن الإفتاء فيها إلا بذلك. ومن أنكر ما لا يعلمه وحكم بلا علم وخالف النص والإجماع كان حكمه باطلا بالإجماع. الحادي والثلاثون: أن قولهم: يحبس إذا لم يمتنع من ذلك، ويشهر أمره؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به. وإنما يستحق ذلك من أظهر البدعة في دين المسلمين، واستحبها، ودعا إليها الناس، وحكم بعقوبة من أمر بالسنة ودعا إليها، والسفر إلى زيارة القبور هي البدعة التي لم يستحبها أحد من أئمة المسلمين. وكذلك جعل زيارة القبور جنسًا واحدًا لا يفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية خطأ باتفاق المسلمين. وكذلك التسوية بين [الزيارة النبوية الشرعية] التي يسافر فيها المسلمون إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين السفر إلى زيارة قبر غيره، كل ذلك مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولإجماع أمته. فمن أمر بذلك كان أحق بالمنع، ويشهر خطأه؛ ليتحفظ الناس من الاقتداء به، أولي ممن أفتي بالسنة والإجماع، مع أن الله ـ سبحانه ـ هو الفاعل لذلك، فهو الذي يظهر خطأ هؤلاء في مشارق الأرض ومغاربها في هذا الزمان وما بعده من الأزمنة، كما فعله في سائر من ابتدع في الدين، وخالف شريعة سيد المرسلين. فإن المفتي ذكر في الجواب ما اتفق المسلمون على استحبابه /وما اتفقوا على النهي عنه. وما تنازعوا فيه، ولم ينه عن الزيارة مطلقًا، لا لفظًا، ولا معني. والإجماع الذي ذكروه هو موافق لما ذكره لا مخالف له. فالزيارة التي أجمع المسلمون عليها هو من أعظم القائلين باستحبابها، لا يجعل المستحب مسمي الزيارة ويسوي بين دين الرحمن ودين الشيطان، كما فعل هؤلاء، وأنكروا على من فرق بين دين الرحمن، ودين الشيطان. الثاني والثلاثون: أن قبول قول الحاكم وغيره بلا حجة مع مخالفته للسنة مخالف لإجماع المسلمين، وإنما هو دين النصاري الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو، سبحانه عما يشركون. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم). والمسلمون متفقون على أن ما تنازعوا فيه يجب رده إلى الله والرسول، وهؤلاء لم يردوا ما تنازع فيه المسلمون إلى الله والرسول، بل حكموا برده بقولهم، وهذا باطل بإجماع المسلمين. وأيضًا، فحكموا بقول ثالث خلاف قولي علماء المسلمين فخرجوا وحكمهم عن إجماع المسلمين، وهذا باطل بإجماع المسلمين. /الثالث والثلاثون: أن كلامهم تضمن الاعتراف بأن ما أفتي به المفتي هو قول بعض علماء المسلمين. وحينئذ فما تنازع فيه المسلمون يجب رده إلى الله والرسول، ولا يحكم فيه إلا كتاب الله أو سنة نبيه، وهؤلاء حكموا فيما تنازع فيه المسلمون بغير كتاب الله ولا سنة رسوله. ومثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين. وهذا لو كان ما أفتي به قول بعضهم، فكيف وهو ذكر القولين اللذين اتفق المسلمون عليهما. والقول الذي أنكروه هو قول الأئمة الكبار، وقولهم لم ينقله أحد من الأئمة الكبار ولا الصغار؟! الرابع والثلاثون: أنه لو قدر أن المفتي أفتي بالخطأ، فالعقوبة لا تجوز إلا بعد إقامة الحجة، فالواجب أن تبين دلالة الكتاب والسنة على خطئه، ويجاب عما احتج به، فإنه لابد من ذكر الدليل والجواب عن المعارض، وإلا فإذا كان مع هذا حجة ومع هذا حجة لم يجز تعيين الصواب مع أحدهما إلا بمرجح، وهؤلاء لم يفعلوا شيئًا من ذلك، فلو كان المفتي مخطئًا لم يقيموا عليه، فكيف إذا كان هو المصيب وهم المخطئون؟! فحكم مثل هؤلاء الحكام باطل بالإجماع. الخامس والثلاثون: أن المفتي إذا تبينت له الأدلة الشرعية، فإن تبين له الصواب وإلا كان له أسوة أمثاله من العلماء الذين يقولون قولا مرجوحًا. ومعلوم أن هؤلاء يستحقون العقوبة والحبس والمنع /عن الفتيا مطلقًا بإجماع المسلمين، وهذا الحكم باطل بإجماع المسلمين. السادس والثلاثون: أن إلزام الناس بما لم يلزمهم به الله ورسوله، ومنعهم أن يتبعوا ما جاء به الكتاب والسنة حرام بإجماع المسلمين، والحكم به باطل بإجماع المسلمين وهؤلاء لم يستدلوا على ما قالوه بكتاب الله ولا سنة رسوله، ولا أجابوا عن حجة من احتج بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإلزام والحكم به باطل بالإجماع. السابع والثلاثون: أن علماء المسلمين إذا تنازعوا في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، بل القول الثالث يكون مخالفًا لإجماعهم. والمسلمون تنازعوا في السفر لغير المساجد الثلاثة على قولين: هل هو حرام، أو جائز غير مستحب. فاستحباب ذلك قول ثالث مخالف للإجماع، وليس من علماء المسلمين من قال: يستحب السفر لزيارة القبور، ولا يستحب إلى المساجد، بل السفر إلى المساجد قد نقل عن بعضهم أنه قال: مستحب يجب بالنذر، وأما السفر إلى القبور لم يقل أحد منهم: إنه مستحب، ولا أنه يجب بالنذر، وكلهم متفقون على أن الذهاب إلى المساجد أفضل من الذهاب إلى القبور؛ فإن زيارة الأنبياء والصالحين حيث كانت مشروعة فلا تشرع في اليوم والليلة خمس مرات، والمسجد مشروع إتيانه في اليوم والليلة خمس مرات، فإتيانه أولي من إتيانها بالإجماع. / الثامن والثلاثون: أن إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصد ذلك والسفر لذلك أولي من إتيان قبره لو كانت الحجرة مفتوحة والسفر إليه بإجماع المسلمين. فإن الصحابة كانوا يأتون مسجده في اليوم والليلة خمس مرات، والحجرة إلى جانب المسجد لم يدخلها أحد منهم؛ لأنهم قد علموا أنه نهاهم أن يتخذوا القبور مساجد، وأن يتخذوا قبره عيدًا، أو وثناً. وأنه قال لهم: (صلوا على حيثما كنتم). وكذلك قد علموا أن صلاتهم وسلامهم عليه في المسجد أولي من عند قبره. وكل من يسافر للزيارة فسفره إنما يكون إلى المسجد، سواء قصد ذلك أو لم يقصده، والسفر إلى المسجد مستحب بالنص والإجماع. والمجيب قد ذكر في الجواب الزيارة المجمع عليها، والمتنازع فيها، وهؤلاء أعرضوا عن الأمر بما أمر الله به ورسوله وعلماء أمته، وعن استحباب ما أحبه الله ورسوله وجميع علماء أمته، وفهموا من كلام العلماء ما لم يقصدوه؛ فإن القاضي عياض الذي حكي ألفاظه قد صرح بما صرح به إمامه وجمهور أصحابه، أنه لا يجوز السفر إلى غير المساجد الثلاثة، وهو لم يذكر استحباب قصد القبر دون المسجد، بل ذكر ما نقله عن العلماء في فضل زيارة الرسول ما بين به مراده، وذكر عن مالك أنه كره أن يقف بعد السلام، وهذا كراهته لزيارة أكثر العامة. وهؤلاء / جعلوا مسمي الزيارة مستحبًا، وأنكروا على من فصل بين الزيارة الشرعية والبدعية. وذكر أن أهل المدينة يكره لهم الوقوف عند القبر، وإن قصدوا مجرد السلام ، إلا عند السفر. وذكر ـ أيضًا ـ أنه يستحب قصد المسجد ، وأن هذا لم يزل المسلمون يفعلونه، فقال: (فصل في حكم زيارة قبره): وزيارة قبره سنة بين المسلمين مجمع عليها، وفضيلة مرغب فيها. قال: وكره مالك أن يقال: زرنا قبر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: وقال إسحاق بن إبراهيم الفقيه: ومما لم يزل من شأن من حج المرور بالمدينة، والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: التبرك برؤية روضته، ومنبره، وقبره، ومجلسه، وملامس يديه، ومواطئ قدميه، والعمود الذي كان يستند عليه وينزل جبرائيل بالوحي فيه عليه، وبمن عمره وقصده من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين والاعتبار بذلك كله. فقد بين أن الإجماع الذي حكوه يتضمن قصد الصلاة في مسجده وأن القبر من جملة آثاره. وهؤلاء زعموا أنه حكي الإجماع على السفر إلى مجرد القبر، وهو لم يذكر ذلك، ولا ما يدل عليه، بل ذكر خلاف ذلك من وجوه. وهؤلاء أخطؤوا عليه فيما نقله، ولم يعرفوا ما في ذلك من السنة والإجماع، وهذا الحكم باطل بالإجماع. /الوجه التاسع والثلاثون: أنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوي أفتي في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه. وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون، لم يجز منعه من الفتيا مطلقًا، بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه. فما زال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك. فابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول في [المتعة والصرف] بخلاف السنة الصحيحة، وقد أنكر عليه الصحابة ذلك، ولم يمنعوه من الفتيا مطلقًا، بل بينوا له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المخالفة لقوله، فعلى ـ رضي الله عنه ـ روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم المتعة، وأبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وغيره رووا له تحريمه لربا الفضل ، ولم يردوا فتياه لمجرد قولهم وحكمهم ويمنعوه من الفتيا مطلقًا ومثل هذا كثير. فالمنع العام حكم بغير ما أنزل الله، وهو باطل باتفاق المسلمين. لو كان ما نازعوه فيه مخالفًا للسنة، فكيف إذا كانت معه، بل ومعه إجماع علماء المسلمين فيما أنكروه من مسائل الزيارة، وهذا مما يبين أن هذا الحكم من أبطل حكم في الإسلام ومن أعظم التغيير لدين الإسلام بإجماع المسلمين. الوجه الموفي أربعين: أن هذه المسائل يعرفها علماء المسلمين من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الوقت؛ فإن جميع المسلمين / يحتاجون إليها، فيمتنع أن يعرف بعض الناس فيها الحق دون السلف والأئمة. والمجيب قد صنف فيها مجلدات؛ بين فيها أقوال الصحابة وأفعالهم، وأقوال علماء المسلمين، ما أجمعوا عليه، وما تنازعوا فيه، وبين الأحاديث النبوية صحيحها وضعيفها، وكلام العلماء فيها، وبين خطأ من نازعه ممن صنف في ذلك، وبسط القول في ذلك. وهؤلاء لو كانوا قد قالوا ببعض أقاويل العلماء، فلم يأتوا عليه بحجة، فكيف وقد قالوا ما يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع علماء المسلمين في مثل هذا الأمر العظيم الذي قد بينه الرسول لأمته، وعرف ذلك علماء أمته قرنًا بعد قرن إلى هذا الزمان، ومعلوم أن مثل هذا الحكم باطل بإجماع المسلمين. الوجه الحادي والأربعون: أنهم لو قالوا ببعض أقوال العلماء فظنوا أنه لا تنازع فيه كانوا عددًا، مثل من يظن: أن السنة للزائر أن يقف عند القبر ويستقبله ويسلم عليه، وقد يظن ذلك إجماعًا، وهو غالط؛ فإن من العلماء من لم يستحب استقبال القبلة، ومنهم من لم يستحب الوقوف عند القبر، كما قد بين النقل عنهم في مواضعه. وأما هؤلاء فحكموا بقول لم يقله أحد من علماء المسلمين، وذلك باطل بالإجماع. الثاني والأربعون: أن ما قالوه لو قاله مُفْتٍ لوجب الإنكار عليه، /ومنعه وحبسه إن لم ينته عن الإفتاء به؛ لأنه مخالف للسنة والإجماع، فكيف إذا قاله حاكم يلزم الناس به؟! وهو أولي بالمنع والعقوبة على ذلك كأهل البدع؛ من الخوارج، والرافضة، وغيرهم والذين يبتدعون بدعة يلزمون بها الناس، ويعادون من خالفهم فيها، ويستحلون عقوبته. والبدع المتضمنة للشرك واتخاذ القبور أوثانًا، والحج إليها، ودعاء غير الله، وعبادته؛ من بدع الخوارج، والروافض، والله أعلم، والحمد لله وحده، وصلي الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
/ بسم الله الرحمن الرحيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. أما بعد، يقول أحمد بن تيمية: إنني لما علمت مقصود ولي الأمر السلطان ـ أيده الله وسدده فيما رسم به ـ كتبت إذ ذاك كلامًا مختصرًا، لأن الحاضر استعجل بالجواب. وهذا فيه شرح الحال أيضًا مختصرًا، وإن رسم ولي الأمر ـ أيده الله وسدده ـ أحضرت له كتبًا كثيرة من كتب المسلمين ـ قديمًا وحديثًا ـ مما فيه كلام النبي صلى الله عليه وسلم /والصحابة والتابعين، وكلام أئمة المسلمين الأربعة، وغير الأربعة وأتباع الأربعة، مما يوافق ما كتبته في الفتيا؛ فإن الفتيا مختصرة، لا تحتمل البسط، ولا يقدر أحد أن يذكر خلاف ذلك، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أئمة المسلمين؛ لا الأربعة، ولا غيرهم. وإنما خالف ذلك من يتكلم بلا علم، وليس معه بما يقوله نقل، لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة المسلمين، ولا يمكنه أن يحضر كتابًا من الكتب المعتمدة عن أئمة المسلمين بما يقوله، ولا يعرف كيف كان الصحابة والتابعون يفعلون في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره. وأنا خطي موجود بما أفتيت به، وعندي مثل هذا كثير كتبته بخطي، ويعرض على جميع من ينسب إلى العلم شرقًا وغربًا، فمن قال: إن عنده علمًا يناقض ذلك فليكتب خطه بجواب مبسوط، يعرف فيه من قال هذا القول قبله، وما حجتهم في ذلك، وبعد ذلك فولي الأمر السلطان ـ أيده الله ـ إذا رأي ما كتبته وما كتبه غيري فأنا أعلم أن الحق ظاهر مثل الشمس، يعرفه أقل غلمان السلطان، الذي ما رؤي في هذه الأزمان سلطان مثله، زاده الله علمًا وتسديدًا وتأييدًا. فالحق يعرفه كل أحد، فإن الحق الذي بعث الله به الرسل لا يشتبه بغيره على / العارف كما لا يشتبه الذهب الخالص بالمغشوش على الناقد. والله تعالى أوضح الحجة، وأبان المحجة بمحمد خاتم المرسلين، وأفضل النبيين ، وخير خلق الله أجمعين. فالعلماء ورثة الأنبياء،عليهم بيان ما جاء به الرسول ورد ما يخالفه. فيجب أن يعرف ـ أولا ـ ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الأحاديث المكذوبة كثيرة، وبعض المنتسبين إلى العلـم قـد صنف في هـذه المسألـة وما يشبهها مصنفًا ذكـر فيه من الكـذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابـة ألوانًا يغتر بهـا الجاهلـون. وهو لم يتعمد الكـذب، بل هو محب للرسول صلى الله عليه وسلم معظم له، لكن لا خبرة له بالتمييز بين الصدق والكذب، فإذا وجد بعض المصنفين في فضائل البقاع وغيرها قد نسب حديثًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابة اعتقده صحيحًا وبني عليه، ويكون ذلك الحديث ضعيفًا، بل كذبًا عند أهل المعرفة بسنته صلى الله عليه وسلم. ثم إذا ميز العالم بين ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما لم يقله، فإنه يحتاج أن يفهم مراده، ويفقه ما قاله، ويجمع بين الأحاديث، ويضم كل شكل إلى شكله، فيجمع بين ما جمع الله بينه ورسوله، ويفرق بين ما فرق الله بينه ورسوله. فهذا هو العلم الذي ينتفع به المسلمون، ويجب تلقيه وقبوله، وبه ساد أئمة المسلمين كالأربعة وغيرهم / ـ رضي الله عنهم أجمعين. وولي الأمر سلطان المسلمين ـ أيده الله وسدده ـ هو أحق الناس بنصر دين الإسلام، وما جاء به الرسول ـ عليه السلام ـ وزجر من يخالف ذلك ويتكلم في الدين بلا علم، ويأمر بما نهي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن يسعي في إطفاء دينه إما جهلاً وإما هوي. وقد نزه الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن هذين الوصفين فقال تعالى: فولي الأمر السلطان ـ أعزه الله ـ إذا تبين له الأمر فهو صاحب السيف الذي هو أولي الناس بوجوب الجهاد في سبيل الله باليد، لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله، ويبين تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتظهر حقيقة التوحيد، ورسالة الرسول الذي جعله الله أفضل الرسل وخاتمهم، ويظهر الهدي ودين الحق الذي بعث به، والنور الذي أوحي إليه، ويصان ذلك /عما يخلطه به أهل الجهل والكذب الذين يكذبون على الله ورسوله، ويجهلون دينه، ويحدثون في دينه من البدع ما يضاهي بدع المشركين، وينتقصون شريعته وسنته وما بعث به من التوحيد، ففي تنقيص دينه وسنته وشريعته من التنقص له والطعن عليه ما يستحق فاعله عقوبة مثله. فولاة أمور المسلمين أحق بنصر الله ورسوله، والجهاد في سبيله، وإعلاء دين الله، وإظهار شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الشرائع التي بعث الله بها خاتم المرسلين وأفضل النبيين، وما تضمنته من توحيد الله وعبادته لا شريك له، وأن يعبد بما أمر وشرع، لا يعبد بالأهواء والبدع. وما من الله به على ولاة الأمر، وما أنعم الله به عليهم في الدنيا، وما يرجونه من نعمة الله في الآخرة، إنما هو باتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصر ما جاء به من الحق. وقد طلب ولي الأمر ـ أيده الله وسدده ـ المقصود بما كتبته. والمقصود طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا. ولا تكون العبادة إلا بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما أوجبه الله تعالى؛ كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، أو ندب إليه؛ كقيام الليل، / والسفر إلى المسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصي للصلاة فيهما والقراءة والذكر والاعتكاف وغير ذلك، مع ما في ذلك من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المسجد والخروج منه وفي الصلاة، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعل في المساجد، وفي زيارة القبور، وغير ذلك. فإن الدين هو طاعته فيما أمر، والاقتداء به فيما سنه لأمته. فلا نتجاوز سنته فيما فعله في عبادته؛ مثل الذهاب إلى مسجد قباء، والصلاة فيه، وزيارة شهداء أحد، وقبور أهل البقيع. فأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا هو مستحب، فهذا ليس من العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل؛ كعبادات أهل البدع من المشركين وأهل الكتاب ومن ضاهاهم؛ فإن لهم عبادات ما أنزل الله بها كتابا، ولا بعث بها رسولا، مثل عبادات المخلوقين، كعبادات الكواكب، أو الملائكة، أو الأنبياء، أو عبادة التماثيل التي صورت على صورهم، كما تفعله النصاري في كنائسهم، يقولون إنهم يستشفعون بهم. وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: (خير الكلام كلام الله، وخير الهَدي هَدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة). أي ما كان بدعة في الشرع، وقد يكون مشروعا لكنه إذا فعل بعده سمي بدعة كقول عمر ـ رضي /الله عنه ـ في قيام رمضان لما جمعهم على قارئ واحد فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل. وقيام رمضان قد سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله قد فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه). وكانوا على عهده صلى الله عليه وسلم يصلون أوزاعا متفرقين. يصلي الرجل وحده، ويصلي الرجل ومعه جماعة جماعة. وقد صلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم جماعة مرة بعد مرة. وقال: (إن الرجل إذا صلي مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة). لكن لم يداوم على الجماعة كالصلوات الخمس، خشية أن يفرض عليهم، فلما مات أمنوا زيادة الفرض فجمعهم عمر على أبي بن كعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يجب علينا أن نحبه حتى يكون أحب إلينا من أنفسنا وآبائنا وأبنائنا وأهلنا وأموالنا، ونعظمه ونوقره ونطيعه باطنا وظاهرًا، ونوالى من يواليه، ونعادي من يعاديه. ونعلم أنه لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم. ولا يكون وليا لله بل ولا مؤمنا ولا سعيدًا ناجيا من العذاب إلا من آمن به واتبعه باطنا وظاهرًا. ولا وسيلة يتوسل إلى الله عز وجل بها إلا الإيمان به وطاعته. وهو أفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين، والمخصوص يوم القيامة بالشفاعة العظمي التي ميزه الله بها على سائر النبيين، صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، لواء الحمد، آدم فمن /دونه تحت لوائه. وهو أول من يستفتح باب الجنة، فيقول الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد. فيقول بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك. وقد فرض على أمته فرائض، وسن لهم سننا مستحبة، فالحج إلى بيت الله فرض، والسفر إلى مسجده والمسجد الأقصي للصلاة فيهما والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف مستحب باتفاق المسلمين. وإذا أتي مسجده فإنه يسلم عليه، ويصلي عليه، ويسلم عليه في الصلاة، ويصلي عليه فيها، فإن الله يقول: وطلب الوسيلة له كما ثبت في الصحيح أنه قال: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا على، فإنه من صلي على مرة صلي الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه شفاعتي يوم القيامة). رواه مسلم. وروي البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، حلت له شفاعتي يوم القيامة). وهذا مأمور به. والسلام عليه عند /قبره المكرم جائز لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام). وحيث صلي الرجل وسلم عليه من مشارق الأرض ومغاربها، فإن الله يوصل صلاته وسلامه إليه، لما في السنن عن أوس بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا على من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة، فإن صلاتكم معروضة على). قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ـ أي صرت رميما ـ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء). ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا على حيثما كنتم؛ فإن صلتكم تبلغني). رواه أبو داود وغيره. فالصلاة تصل إليه من البعيد كما تصل إليه من القريب. وفي النسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام). وقد أمرنا الله أن نصلي عليه، وشرع ذلك لنا في كل صلاة أن نثني على الله بالتحيات ثم نقول: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته). وهذا السلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها. وكذلك إذا صلينا عليه فقلنا: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) . وكان المسلمون على عهده وعهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى يصلون /في مسجده، ويسلمون عليه في الصلاة، وكذلك يسلمون عليه إذا دخلوا المسجد، وإذا خرجوا منه، ولا يحتاجون أن يذهبوا إلى القبر المكرم، ولا أن يتوجهوا نحو القبر ويرفعوا أصواتهم بالسلام كما يفعله بعض الحجاج ـ بل هذا بدعة لم يستحبها أحد من العلماء، بل كرهوا رفع الصوت في مسجده، وقد رأي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ رجلين يرفعان أصواتهما في مسجده ورآهما غريبين، فقال: أما علمتما أن الأصوات لا ترفع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لو أنكما من أهل البلد لأوجعتكما ضربا. وعذرهما بالجهل فلم يعاقبهما. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن في حجرة عائشة ـ رضي الله عنها ـ وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه، لم يكن شيء من ذلك داخلا في المسجد، واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة. ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته وسع المسجد، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة؛ فإن الوليد كتب إلى نائبه عمر بن عبد العزيز أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهن كن قد توفين كلهن ـ رضي الله عنهن ـ فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد، فهدمها وأدخلها في المسجد، وبقيت حجرة عائشة على حالها، وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي /صلى الله عليه وسلم لا لصلاة عنده ولا لدعاء ولا غير ذلك إلى حين كانت عائشة في الحياة، وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، فإنها توفيت في خلافة معاوية، ثم ولي ابنه يزيد، ثم ابن الزبير في الفتنة، ثم عبد الملك ابن مروان، ثم ابنه الوليد، وكانت ولايته بعد ثمانين من الهجرة وقد مات عامة الصحابة، قيل: إنه لم يبق بالمدينة إلا جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ فإنه آخر من مات بها في سنة ثمان وسبعين قبل إدخال الحجرة بعشر سنين. ففي حياة عائشة ـ رضي الله عنها ـ كان الناس يدخلون عليها لسماع الحديث، ولاستفتائها، وزيارتها، من غير أن يكون إذا دخل أحد يذهب إلى القبر المكرم، لا لصلاة ولا لدعاء ولا غير ذلك ـ بل ربما طلب بعض الناس منها أن تريه القبور فتريه إياهن، وهي قبور لا لاطئة ولا مشرفة، مبطوحة ببطحاء العرصة. وقد اختلف هل كانت مسنمة أو مسطحة، والذي في البخاري أنها مسنمة. قال سفيان التمار: إنه رأي قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما، لكن كان الداخل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: (ما من أحد يسلم على إلا رد الله عليه روحي حتى أرد عليه السلام). وهذا السلام مشروع لمن كان يدخل الحجرة. وهذا السلام هو القريب الذي يرد النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه. وأما السلام المطلق /الذي يفعل خارج الحجرة وفي كل مكان فهو مثل السلام عليه في الصلاة، وذلك مثل الصلاة عليه، والله هو الذي يصلي على من يصلي عليه مرة عشرًا، ويسلم على من يسلم عليه مرة عشرًا. فهذا هو الذي أمر به المسلمون خصوصا للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف السلام عليه عند قبره، فإن هذا قدر مشترك بينه وبين جميع المؤمنين، فإن كل مؤمن يسلم عليه عند قبره كما يسلم عليه في الحياة عند اللقاء وأما الصلاة والسلام في كل مكان والصلاة على التعيين فهذا إنما أمر به في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي أمر الله العباد أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما. صلي الله عليه وعلى آله وسلم تسليما. فحجر نسائه كانت خارجة عن المسجد شرقيه وقبليه؛ ولهذا قال صلي الله عليه وسلم: ( ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة). هذا لفظ الصحيحين، ولفظ: (قبري) ليس في الصحيح، فإنه حينئذ لم يكن قبر . ومسجده إنما فضل به صلى الله عليه وسلم لأنه هو الذي بناه وأسسه على التقوي. وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلا المسجد الحرام). وجمهور العلماء على أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، هكذا روي أحمد والنسائي وغيرهما / بإسناد جيد. والمسجد الحرام هـو فضل بـه وبإبراهيم الخليل، فـإن إبراهيم الخليل بني البيت ودعا الناس إلى حجه بأمره تعالى، ولم يوجبه على الناس ولهذا لم يكن الحج فرضا في أول الإسلام، وإنما فرض في آخر الأمر. والصحيح أنه إنما فرض سنة نزلت آل عمران لما وفد أهل نجران سنة تسع أو عشر. ومـن قال: في سـنة ست فإنما اسـتدل بقـوله تعالى: ولما مات دفن في حجرة عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته: (لعن الله إليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا. قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح /مسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك). وفي صحيح مسلم ـ أيضا ـ أنه قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). فنهى صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها، ولعن إليهود والنصاري لكونهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ لأن هذا كان هو أول أسباب الشرك في قوم نوح، قال اللّه تعالى عنهم: ولهذا لما أدخلت الحجرة في مسجده المفضل في خلافة الوليد بن عبد الملك ـ كما تقدم ـ بنوا عليها حائطا وسنموه وحرفوه لئلا يصلي أحد إلى قبره الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي موطأ مالك عنه أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم/ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). وقد استجاب الله دعوته فلم يتخذ ولله الحمد وثنًا، كما اتخذ قبر غيره، بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة. وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدًا من أن يدخل إليه ليدعو عنده، ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره. لكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهى عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره. وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنًا، فإنه في حياة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تكن تمكن أحدًا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر. كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدًا وقبره وثنا، وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم، وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة. فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدًا. ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم. والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء ـ وهو الرمل الغليظ ـ ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره. /وهو صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن ذلك سدًا للذريعة، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك. ودعا الله ـ عز وجل ـ ألا يتخذ قبره وثنا يعبد؛ فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدًا لا يدخل عنده قبره البتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذ ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهى عنها. وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك ـ والعياذ بالله ـ لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبور غيره صلى الله عليه وسلم.
|