الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: وأما المائعات ـ كالزيت والسمن، وغيرهما من الأدهان كالخل واللبن وغيرهما ـ إذا وقعت فيه نجاسة مثل الفأرة الميتة، ونحوها من النجاسات، ففي ذلك قولان للعلماء: /أحدهما: أن حكم ذلك حكم الماء، وهذا قول الزهري وغيره من السلف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويذكر رواية عن مالك في بعض المواضع، وهذا هو أصل قول أبي حنيفة، حيث قاس الماء على المائعات. والثاني: أن المائعات تنجس بوقوع النجاسة فيها، بخلاف الماء، فإنه يفرق بين قليله وكثيره. وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عن مالك وأحمد. وفيها قول ثالث: هو رواية عن أحمد، وهو الفرق بين المائعات المائية وغيرها فخل التمر يلحق بالماء، وخل العنب لا يلحق به. وعلى القول الأول، إذا كان الزيت كثيرًا مثل أن يكون قلتين، فإنه لا ينجس إلا بالتغير كما نص على ذلك أحمد في كلب ولغ في زيت كثير. فقال: لا ينجس. وإن كان المائع قليلاً، انبنى على النزاع المتقدم في الماء القليل. فمن قال: أن القليل لا ينجس إلا بالتغير، قال: ذلك في الزيت وغيره، وبذلك أفتى الزهري ـ لما سئل عن الفأرة أو غيرها من الدواب. تموت في سمن أو غيره من الأدهان ـ فقال: تلقى وما قرب منها ويؤكل، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، وسواء كان جامدًا أو مائعًا. وقد ذكر ذلك البخاري عنه في صحيحه لمعنى سنذكره إن شاء الله. /ومـن قـال: أن المائـع القليل ينجس بوقوع النجاسة، قال: إنه كالماء، فإنه يطهر بالمكاثرة كما يطهر الماء بالمكاثرة. فإذا صب عليه زيت كثير طهر الجميع. والقول بأن المائعات لا تنجس كما لا ينجس الماء هـو القـول الراجح، بـل هي أولى بعدم التنجـيس مـن الماء. وذلك لأن الله أحل لنا الطيبات، وحـرم علينا الخبائث، والأطعمـة والأشـربة ـ من الأدهـان والألبان والزيت والخلول. والأطعمة المائعة ـ هي مـن الطيبات التي أحلها الله لنا، فـإذا لم يظهر فيها صفة الخبث ـ لا طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، ولا شيء مـن أجزائه ـ كانت على حالها في الطيب، فلا يجوز أن تجعل من الخبيث المحرمـة مع أن صفاتها صفات الطيب لا صفات الخبائث، فإن الفرق بين الطيبات والخبائث بالصفات المميزة بينهما. ولأجل تلك الصفات حرم هذا، وأحل هذا. وإذا كان هذا الجب وقع فيه قطرة دم أو قطرة خمر ـ وقد استحالت واللبن باق على صفته، والزيت باق على صفته ـ لم يكن لتحريم ذلك وجه. فإن تلك قد استهلكت واستحالت، ولم يبق لها حقيقة من الأحكام يترتب عليها شيء من أحكام الدم والخمر. وإنما كانت أولى بالطهارة من الماء لأن الشارع رخص في إراقة الماء وإتلافه حيث لم يرخص في إتلاف المائعات كالاستنجاء، فإنه يستنجي بالماء دون هذه، وكذلك إزالة سائر النجاسات بالماء. /وأمـا استعمال المائعات في ذلك فـلا يصح ـ سواء قيل: تزول النجاسة أو لا تزول ـ ولهذا قال من قال من العلماء: إن الماء يراق إذا ولغ فيه الكلب، ولا تراق آنية الطعام والشراب. وأيضًا، فإن الماء أسرع تغيرًا بالنجاسة من الملح، والنجاسة أشد استحالة في غير الماء منها في الماء، فالمائعات أبعد عن قبول التنجيس حسًا وشرعًا من الماء، فحيث لا ينجس الماء فالمائعات أولى ألا تنجس. وأيضًا، فقـد ثبت في صحيـح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمـن، فقـال: (ألقـوها ومـا حولها، وكلوا سمنكم). فأجـابهم النبي صلى الله عليه وسلم جوابًا عامًـا مطلقًا بأن يلقـوهـا ومـا حـولها، وأن يأكلوا سمنهم، ولم يستفصلهم هل كان مائعًا أو جـامـدًا. وترك الاستفصال في حكايـة الحال مـع قـيام الاحتمال ينـزل منزلـة العمـوم في المقال. مع أن الغالب على سمن الحجاز أن يكون ذائبًا. وقد قيل: إنه لا يكون إلا ذائبًا. والغالب على السمـن أنه لا يبـلغ القلتين، مع أنه لم يستفصل هل كان قليلاً أو كثيرًا. فإن قيل: فقد روى في الحديث.. (إن كان جامدًا فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا تقربوه).. رواه أبو داود وغيره. /قيل: هذه الزيادة هي التي اعتمد عليها من فرق بين المائع والجامد، واعتقدوا أنها ثابتة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذلك مجتهدين قائلين بمبلغ علمهم واجتهادهم. وقد ضعَّف محمد بن يحيى الذهلي حديث الزهري، وصحح هذه الزيادة، لكن قد تبين لغيرهم أن هذه الزيادة وقعت خطأ في الحديث، ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الذي تبين لنا ولغيرنا ـ ونحن جازمون ـ بأن هذه الزيادة ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك رجعنا عن الإفتاء بها بعد أن كنا نفتي بها أولاً. فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. والبخاري والترمذي ـ رحمة الله عليهما ـ وغيرهما من أئمة الحديث، قد بينوا لنا أنها باطلة، وأن معمرًا غلط في روايته لها عن الزهري، وكان معمر كثير الغلط، والأثبات من أصحاب الزهري ـ كمالك، ويونس، وابن عيينة ـ خالفوه في ذلك، وهو نفسه اضطربت روايته في هذا الحديث إسنادًا ومتنًا، فجعله عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإنما هو عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة، وروي عنه في بعض طرقه أنه قال: (إن كان مائعًا فاستصبحوا به) (وفي بعضها فلا تقربوه). والبخاري بين غلطه في هذا، بأن ذكر في صحيحه عن يونس عن الزهري نفسه أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إن كان/جامدًا أو مائعًا قليلاً أو كثيرًا تلقى وما قرب منها ويؤكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: (ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم) فالزهري الذي مدار الحديث عليه، قد أفتى في المائع والجامد بأن تلقى الفأرة وما قرب منها، ويؤكل، واستدل بهذا الحديث كما رواه عنه جمهور أصحابه. فتبين أن من ذكر عنه الفرق بين النوعين فقد غلط. وأيضًا، فالجمود والميعان، أمر لا ينضبط، بل يقع الاشتباه في كثير من الأطعمة، هل تلحق بالجامد أو المائع. والشارع لا يفصل بين الحلال والحرام إلا بفصل مبين لا اشتباه فيه. كما قال تعالى: وأيضًا، فإذا كانت الخمر التي هي أم الخبائث إذا انقلبت بنفسها حلت باتفاق المسلمين، فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب. وإذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختياره فاستحالت، كانت أولى بالطهارة. فإن قيل: الخمر لما نجست بالاستحالة طهرت بالاستحالة، بخلاف غيرها، والخمر إذا قصد تخليلها لم تطهر. /قيل في الجواب عن الأول: إن جميع النجاسات نجست بالاستحالة، فإن الإنسان يأكل الطعام ويشرب الشراب وهي طاهرة، ثم تستحيل دمًا وبولاً وغائطًا فتنجس. وكذلك الحيوان يكون طاهرًا، فإذا مات احتبست فيه الفضلات، وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فينجس؛ ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور سواء قيل: إن الدباغ كالحياة، أو قيل إنه كالذكاة، فإن في ذلك قولين مشهورين للعلماء، والسنة تدل على أن الدباغ كالذكاة. وأما ما قصد تخليله، فذلك لأن حبس الخمر حرام، سواء حبست لقصد التخليل أو لا. والطهارة نعمة فلا تثبت النعمة بالفعل المحرم.
وفي الرجل، إذا مس ثوبه القصَّاب أو يده وعليه شيء من الدسم غسل ما أصابه منه. فهل هو في ذلك مصيب؟ أو هذا وسواس؟ وفي الرجل ـ أيضًا ـ يصلي إلى جانبه قصَّاب في المسجد فيقول مكان هذا القصاب غير طاهر؛ لأن القصابين لا يتحرزون من النجاسة في أبدانهم وثيابهم، وإذا صافحه قصَّاب غسل يده؟ وكذلك إذا مسه الطواف باللحم غسل ما أصابه منه. فهل هو مخطئ؟ وما الحكم في ذلك؟ وما الذي كانت عليه الصحابة؟ وفي الرجل يأكل الشرائح ـ وقد جرت العادة بأن عمالها لا يغسلون اللحم ـ فهل يحرم أكلها أو يكره؟ لكون القصابين يذبحون بسكين/ويسلخون بها من غير غسل؟ وإذا عفي عنه في الأكل: فهل يعفي عن الرجل يأكل من ذلك ويصيب ثوبه وبدنه من ذلك ولا يغسله والمراد: ما لو جرى بحضرة الصحابة أو فعل؟ أفتونا مأجورين. فأجاب: أما مقاود الخيل ورباطها فطاهر باتفاق الأئمة؛ لأن الخيل طاهرة بالاتفاق. ولكن الحمير فيها خلاف: هل هي طاهرة أو نجسة، أو مشكوك فيها؟ والصحيح الذي لا ريب فيه أن شعرها طاهر؛ إذ قد بينا أن شعر الكلب طاهر، فشعر الحمار أولى. وإنما الشبهة في ريق الحمار هل يلحق بريق الكلب أو بريق الخيل؟ وأما مقاودها وبراذعها فمحكوم بطهارتها، وغاية ما فيها أنه قد يصيبها بول الدواب وروثها. وبول البغل والحمار فيه نزاع بين العلماء. منهم من يقول: هو طاهر ومنهم من ينجسه، وهم الجمهور وهو مذهب الأئمة الأربعة. لكن هل يعفي عن يسيره؟ على قولين. هما روايتان عن أحمد. فإذا عفي عن يسير بوله وروثه، كان ما يصيب المقاود وغيرها معفوًا عنه. وهذا مع تيقن النجاسة. وأما مع الشك، فالأصل في ذلك الطهارة، والاحتياط في ذلك وسواس، فإن الرجل إذا أصابه ما يجوز أن يكون طاهرًا ويجوز أن/ يكون نجسًا لم يستحب له التجنب على الصحيح، ولا الاحتياط، فإن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مر هو وصاحب له بميزاب فقطر على صاحبه منه ماء. فقال صاحبه: يا صاحب الميزاب ماؤك طاهر أو نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبره، فإن هذا ليس عليه. وعلى القول بالعفو، فإذا فرش في الخانات وغيرها على روث الحمير ونحوها، فإنه يعفي عن يسير ذلك. وأما روث الخيل فالصحيح أنه طاهر، فلا يحتاج إلى عفو، ولا يجب عليه شيء من ذلك إذا دخل الحضر، وسواء كانت يده رطبة من ماء أو غير ذلك، فإنه لا يضره من المقاود. وغسل المقاود بدعة لم ينقـل ذلك عن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بل كانوا يركبونها. وامتن الله عليهم بذلك في قوله تعالى :
وثوب القصَّاب وبدنه محكوم بطهارته، وإن كان عليه دسم، وغسل اليدين من ذلك وسوسة وبدعة، ومكانه من المسجد وغيره طاهر،/وغاية ما يصيب القصاب، أن الدم يصيبه أحيانًا، فالذي يماسه إذا لم يكن عليه دم لا يضره، ولو أصابه دم يسير لعفي عنه؛ لأن الدم اليسير معفو عنه، ونجاسة القصاب ليست من نجاسة الدسم، فإن الدسم طاهر لا نجاسة فيه، ويسير الدم معفو عنه، وغسل يده من مصافحة القصَّاب أو الطواف وسوسة وتنطع مخالف للسنة. وقد ذكر البخاري أن عمر بن الخطاب توضأ من جرة امرأة نصرانية، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل زبيبة الحسن، وقد صلى وهو حامل أمامة ابنة ابنته، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. ومثل هذا كثير في الآثار يبين سعة الأمر في ذلك.
أكل الشوى والشريح جائز سواء غسل اللحم أو لم يغسل، بل غسل لحم الذبيحة بدعة، فما زال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يأخذون اللحم فيطبخونه ويأكلونه بغير غسله، وكانوا يرون الدم في القدر خطوطًا، وذلك أن الله إنما حرم عليهم الدم المسفوح أى المصبوب المهراق، فأما ما يبقى في العروق فلم يحرمه. ولكن حرم عليهم أن يتبعوا العروق كما تفعل اليهود الذين ـ بظلم منهم ـ /حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم، وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا. وسكين القصَّاب يذبح بها ويسلخ، فلا تحتاج إلى غسل، فإن غسل السكاكين التي يذبح بها بدعة، وكذلك غسل السيوف. وإنما كان السلف يمسحون ذلك مسحًا؛ ولهذا جاز في أحد قولى العلماء في الأجسام الصقيلة كالسيف والمرآة إذا أصابها نجاسة أن تمسح ولا تغسل وهذا فيما لا يعفي عنه. فأما ما تعين عدم نجسه، فلا يحتاج إلى غسل ولا مسح، واليسير يعفي عنه. وما عفي عنه، فالحمل والمشي بلا ريب، فإن كل ما جاز أكله، جاز مباشرته في الصلاة وغيرها، وليس كل ما جازت مباشرته في الصلاة وغيرها، جاز أكله، كالسموم المضرة، فإنه لا يجوز أكلها. ولو باشرها وإن كانت طاهرة تجوز مباشرتها في الصلاة. وذلك لأن الله ـ تعالى ـ حرم علينا الخبائث، وأباح لنا الطيبات، والخبيث يضر، والطيب ينفع، وما ضر في مباشرة الظاهر كانت مضرته بممازجة الأبدان إذا أكل أقوى وأقوى، وليس كل ما ضر بالممازجة والمخالطة يضر بالمباشرة والملامسة؛ ولهذا كان ما عفي عنه في الحمل كدم الجرح والدماميل وما يعلق بالسكين من دم الشاة ونحو ذلك، فهذا إذا وقع في ماء أو مائع فقيل إنه ينجسه، وإنما يعفي عنه في المائعات. كما تقدم من أن الله إنما حرم الدم المسفوح، وقد كان/ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل أحدهم إصبعه في خيشومه فيلوث أصابعه بالدم فيمضى في صلاته. وكذلك كانت أيديهم تصيب الدماميل والجراح ولم ينقل عنهم أنهم كانوا يتحرجون من مباشرة المائعات حتى يغسلوا أيديهم. وقد ثبت أنهم كانوا يضعون اللحم بالقدر فيبقى الدم في الماء خطوطًا، وهذا لا أعلم بين العلماء خلافًا في العفو عنه، وأنه لا ينجس باتفاقهم وحينئذ، فأى فرق بين كون الدم في مرق القدر، أو مائع آخر، وكونه في السكين أو غيرها؟! والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، لا ينجس بذلك، بل يجوز بيعه واستعماله إذا لم يتغير في إحدى الروايتين عن أحمد، وحكم المائعات عنده حكم الماء في إحدى الروايتين، فلا ينجس إذا بلغ القلتين إلا بالتغير، لكن تلقى النجاسة وما حولها، وقد ذهب إلى أن حكم المائعات حكم الماء طائفة /من العلماء: كالزهري، والبخاري صاحب الصحيح. وقد ذكر ذلك رواية عن مالك، وهو ـ أيضًا ـ مذهب أبي حنيفة، فإنه سوى بين الماء والمائعات بملاقاة النجاسة، وفي إزالة النجاسة، وهو رواية عن أحمد في الإزالة، لكن أبو حنيفة رأى مجرد الوصول منجسًا، وجمهور الأئمة خالفوا في ذلك فلم يروا الوصول منجسًا، مع الكثرة. وتنازعوا في القليل. إذ من الفقهاء من رأى أن مقتضى الدليل أن الخبث إذا وقع في الطيب أفسده، ومنهم من قال: إنما يفسده إذا كان قد ظهر أثره، فأما إذا استهلك فيه واستحال فلا وجه لإفساده، كما لو انقلبت الخمرة خلاً بغير قصد آدمى فإنها طاهرة حلال باتفاق الأئمة، لكن مذهبه في الماء معروف، وعلى هذا أدلة قد بسطناها في غير هذا الموضع، ولا دليل على نجاسته لا في كتاب الله ولا سنة رسوله. وعمدة الذين نجسوه، احتجاجهم بحـديث رواه أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (إن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم، وإن كان مائعًا فلا/ تقـربوه)، وهذا الحديث إنما يدل لو دل على نجاسة السمن الذي وقع فيه الفأرة، فكيف والحديث ضعيف؟! بل باطل غلط فيه معمر على الزهري غلطًا معروفًا عند النقاد الجهابذة، كما ذكره الترمذي عن البخاري. ومن اعتقد من الفقهاء أنه على شرط الصحيح، فلم يعلم العلة الباطنة فيه التي توجب العلم ببطلانه، فإن علم العلل من خواص علم أئمة الحديث. ولهذا بين البخاري في صحيحه ما يوجب فساد هذه الرواية، وأن الحديث الصحيح هو على طهارته أدل منه على النجاسة فقال: [باب: إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب] حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبد الله ـ يعني ابن المبارك ـ عن يونس، عن الزهري: أنه سئل عن الدابة التي تموت في الزيت أو السمن وهو جامـد. أو غير جامـد ـ الفأرة أو غيرها ـ قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل. وفي حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن فأرة وقعت في سمـن فقـال: (ألقوها وما حولها وكلوه) فذكر البخاري عن ابن شهاب الزهري ـ أعلم الأمة بالسنة في زمانه ـ أنه أفتى في الزيت والسمن الجامد وغير الجامد إذا ماتت فيه الفأرة أنها تطرح وما قرب منها. /واستدل بالحديث الذي رواه عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: (ألقوها وما حولها وكلوه) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان مائعًا فلا تقربوه، بل هذا باطل. فذكر البخاري ـ رضى الله عنه ـ هذا ليبين أن من ذكر عن الزهري أنه روي في هذا الحديث هذا التفصيل فقد غلط عليه، فإنه أجاب بالعموم، في الجامد والذائب، مستدلا بهذا الحديث بعينه، لاسيما والسمن بالحجاز يكون ذائبًا أكثر مما يكون جامدًا، بل قيل: إنه لا يكون بالحجاز جامدًا بحال. فإطـلاق النبي صلى الله عليه وسلم الجـواب مـن غير تفصيل يـوجب العمـوم؛ إذ الـسؤال كالمعـاد في الجـواب، فكأنـه قـال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوا سمنكم، وترك الاستفصال في حكايـة الحـال مع قيـام الاحتمال يتـنزل منزلـة العمـوم في المقـال. هـذا إذا كـان السمـن بالحجاز يكـون جامـدًا ويكـون ذائبًا، فـأمـا إن كـان وجـود الجامـد نادرًا أو معـدومـًا، كان الحـديث نصًا في أن السمـن الذائب إذا وقعت فيـه الفـأرة فـإنها تلقى ومـا حـولها ويؤكـل. ولذلك أجـاب الزهري فـإن مـذهبـه أن الماء لا ينجس قليله ولا كثـيره إلا بالتغـير، وقـد ذكر البخاري في أوائـل الصحيـح: التسويـة بين الماء والمائعات. /وقـد بسطنا الكـلام في هـذه المسألـة ودلائلها، وكـلام العلماء فيها في غير هذا الموضـع. كيف وفي تنجيـس مثـل ذلك وتحريمـه من فساد الأطعمة العظيمة، وإتلاف الأمـوال العظيمـة القـدر، مـا لا تأتى بمثلـه الشريعة الجامعة للمحاسن كلها. والله ـ سبحانه ـ إنما حـرم علينا الخبائث تنزيهًا لنا عن المضار، وأباح لنا الطيبات كلها لم يحرم علينا شـيئًا مـن الطيبات، كما حرم على أهـل الكتاب ـ بظلمهم ـ طيبات أحلت لهم. ومـن استقـرأ الشريعـة في مـواردها ومصادرها واشتمالها على مصالح العباد في المبدأ والمعاد، تبين له من ذلك ما يهديه الله إليه
|