الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
أن يبينوا هذه الأقوال، وهل هي حق أو باطل؟ وما يعرف به معناها؟ وما يبين أنها حق أو باطل؟ وهل الواجب إنكارها، أو إقرارها، أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما الحكم فيمن اعتقد معناها، إما مع المعرفة بحقيقتها؟ وإما مع التسليم المجمل لمن قالها؟ / والمتكلمون بها، هل أرادوا معنى صحيحا يوافق العقل والنقل؟ وهل يمكن تأويل ما يشكل منها وحمله على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها، وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها، ولا يعرفون حقيقتها؟ أم ينبغي السكوت عن ذلك وترك الناس يعظمونها، ويؤمنون بها. مع عدم العلم بمعناها؟ بينوا ذلك مأجورين. / فأجاب ـ رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين، مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى، مع مخالفتهما للمنقول والمعقول. أحدهما: الحلول والاتحاد، وما يقارب ذلك، كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون: إن الوجود واحد، فالوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة، كابن عربي، وصاحبه القونوي، وابن سبعين، وابن الفارض صاحب القصيدة التائية ـ نظم السلوك ـ وعامر البصري السيواسي، الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض. والتلمساني الذي شرح [مواقف النفري] وله شرح الأسماء الحسنى، على طريقة هؤلاء، وسعيد الفرغاني، الذي شرح قصيدة ابن الفارض، والششتري صاحب الأزجال، الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلياني، وابن أبي المنصور المتصوف المصري، صاحب [فك الأزرار عن أعناق الأسرار]وأمثالهم. ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت ـ كما يقوله ابن عربي ـ ويزعم/ أن الأعيان ثابتة في العدم، غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان، في ظهور وجوده بها، وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها، الذي هو نفس وجوده. وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء، وقول من يقول: وجود الخالق هو وجود المخلوق، ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في موضع آخر. ومنهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين، كما يقول القونوي ونحوه، فيقولون: إن الواجب هو الوجود المطلق لا بشرط، وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان لا في الأعيان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينا، وإن قيل: إن المطلق جزء من المعين لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوق، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا. ومنهم من قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، كما يقول ابن سينا وأتباعه، فقوله أشد فسادًا، فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان؛ فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء ـ الذين يلزمهم التعطيل ـ شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول والاتحاد. وآخرون يجعلون الوجود الواجب، والوجود الممكن بمنزلة المادة / والصورة، التي تقولها المتفلسفة، أو قريب من ذلك، كما يقوله ابن سبعين وأمثاله. وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود، والحلول أو الاتحاد، وهم يقولون بالحلول المطلق، والوحدة المطلقة، والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعين، كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون بإلهية علىّ، أو الحاكم، أو الحلاج، أو يونس القنيني، أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية. فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم. ولهذا يقولون: إن النصارى إنما كان خطؤهم في التخصيص، وكذلك يقولون في المشركين عباد الأصنام، إنما كان خطؤهم لأنهم اقتصروا على بعض المظاهر دون بعض، وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقا، على وجه الإطلاق والعموم. ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال، ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى. وهذا المذهب شائع في كثير من المتأخرىن، وكان طوائف من الجهمية يقولون به، وكلام ابن عربي، في فصوص الحكم وغيره، وكلام ابن سعبين / وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض نظم السلوك وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني، وعبد الله البلياني، والصدر القونوي وكثير من شعر ابن إسرائيل، وما ينقل من ذلك عن شيخه الحريري، وكذلك نحو منه يوجد في كلام كثير من الناس غير هؤلاء هو مبني على هذا المذهب ـ مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. وكثير من أهل السلوك، الذين لا يعتقدون هذا المذهب، يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال. وأصل ضلال هؤلاء: أنهم لم يعرفوا مباينة الله لمخلوقاته، وعلوه عليها، وعلموا أنه موجود، فظنوا أن وجوده لا يخرج عن وجودها، بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن أنه الشمس نفسها. ولما ظهرت الجهمية ـ المنكرة لمباينة الله وعلوه على خلقه ـ افترق الناس في هذا الباب على أربعة أقوال: فالسلف والأئمة يقولون: إن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وكما علم المباينة والعلو بالمعقول الصريح، الموافق للمنقول الصحيح، وكما فطر الله على ذلك خلقه، من إقرارهم به، وقصدهم إياه سبحانه وتعالى. / والقول الثاني: قول معطلة الجهمية ونفاتهم، وهم الذين يقولون: لا هو داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين له، ولا محايث له، فينفون الوصفين المتقابلين، اللذين لا يخلو موجود عن أحدهما، كما يقول ذلك أكثر المعتزلة، ومن وافقهم من غيرهم. والقول الثالث: قول حلولية الجهمية، الذين يقولون: إنه بذاته في كل مكان، كما يقول ذلك النجارية ـ أتباع حسين النجار ـ وغيرهم من الجهمية، وهؤلاء القائلون بالحلول والاتحاد من جنس هؤلاء، فإن الحلول أغلب على عباد الجهمية، وصوفيتهم وعامتهم، والنفي والتعطيل أغلب على نظارهم ومتكلميهم كما قيل: متكملة الجهمية لا يعبدون شيئا، ومتصوفة الجهمية يعبدون كل شيء. وذلك لأن العبادة تتضمن الطلب والقصد، والإرادة والمحبة، وهذا لا يتعلق بمعدوم، فإن القلب يطلب موجودًا، فإذا لم يطلب ما فوق العالم طلب ما هو فيه. وأما الكلام والعلم والنظر فيتعلق بموجود ومعدوم، فإذا كان أهل الكلام والنظر يصفون الرب بصفات السلب والنفي ـ التي لا يوصف بها إلا المعدوم ـ لم يكن مجرد العلم والكلام ينافي عدم المعبود المذكور، بخلاف القصد والإرادة والعبادة، فإنه ينافي عدم المعبود. ولهذا تجد الواحد من هؤلاء ـ عند نظره وبحثه ـ يميل إلى النفي، وعند عبادته وتصوفه يميل إلى الحلول، وإذا قيل له: هذا ينافي ذلك، قال: هذا مقتضى / عقلي ونظري، وذاك مقتضى ذوقي ومعرفتي، ومعلوم أن الذوق والوجد إن لم يكن موافقا للعقل والنظر، وإلا لزم فسادهما أو فساد أحدهما. والقول الرابع: قول من يقول: إن الله بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان، وهذا قول طوائف من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ وأمثاله، وقد ذكر الأشعري في المقالات هذا عن طوائف، ويوجد في كلام السالمية ـ كأبي طالب المكي وأتباعه، كأبي الحكم بن برجان وأمثاله ـ ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا. وفي الجملة، فالقول بالحلول أو ما يناسبه وقع فيه كثير من متأخرى الصوفية؛ ولهذا كان أئمة القوم يحذرون منه كما في قول الجنيد ـ لما سئل عن التوحيد ـ فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم، فبين أن التوحيد أن يميز بين القديم والمحدث. وقد أنكر ذلك عليه ابن عربي ـ صاحب الفصوص ـ وادعى أن الجنيد وأمثاله ماتوا وما عرفوا التوحيد، لما أثبتوا الفرق بين الرب والعبد، بناء على دعواه أن التوحيد ليس فيه فرق بين الرب والعبد، وزعم أنه لا يميز بين القديم والمحدث إلا من ليس بقديم ولا محدث وهذا جهل فإن المعرفة بأن هذا ليس ذاك، والتمييز بين هذا وذاك لا يفتقر إلى أن يكون العارف المميز بين الشيئين ليس هو أحد الشيئين، بل الإنسان يعلم أنه ليس هو ذلك الإنسان الآخر، مع أنه أحدهما، فكيف لا يعلم أنه غير ربه، وإن كان هو أحدهما؟ / الأصل الثاني: الاحتجاج بالقدر على المعاصي، وعلى ترك المأمور وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه، ووعده ووعيده. والناس ـ الذين ضلوا في القدر ـ على ثلاثة أصناف: قوم آمنوا بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر، وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم. وقوم آمنوا بالقضاء والقدر، ووافقوا أهل السنة والجماعة، على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، وربه ومليكه، لكن عارضوا هذا بالأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضا للشريعة. وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وإن العارف يستوى عنده هذا وهذا. وهم في ذلك متناقضون، مخالفون للشرع والعقل، والذوق والوجد، فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم، وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل، والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث، ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما، ويفرقون أيضا بموجب أهوائهم وأغراضهم، لا بموجب الأمر والنهي، ولا يقفون لا مع القدر، ولا مع الأمر، بل كما/ قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب يوافق هواك تمذهبت به. ولا يوجد أحد يحتج بالقدر في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض، لا يجعله حجة في مخالفة هواه، بل يعادي من آذاه وإن كان محقا، ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوا لله، فيكون حبه وبغضه، وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده لا بحسب أمر الله ونهيه، ومحبته وبغضه، وولايته وعداوته. إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن هذا مستلزم للفساد، الذي لا صلاح معه، والشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتد، ولا اقتص من ظالم باغ، ولا أخذ لمظلوم حقه من ظالمه، ولفعل كل أحد ما يشتهيه، من غير معارض يعارضه فيه، وهذا فيه من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد. فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد، وإلى ما يضرهم، والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه تبع ضده من الأهواء والبدع، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه، ولزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير. / وإن قال: أنا أعذر بالقدر من شهده، وعلم أن الله خالق فعله ومحركه، لا من غاب عن هذا الشهود، أو كان من أهل الجحود. قيل له: فيقال لك: وشهود هذا، وجحود هذا من القدر؟ فالقدر متناول لشهود هذا، وجحود هذا؟ فإن كان هذا موجبا للفرق مع شمول القدر لهما، فقد جعلت بعض الناس محمودا، وبعضهم مذموما مع شمول القدر لهما؟ وهذا رجوع إلى الفرق واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك، وتناقضت فيه، وهذا لازم لكل من دخل معك فيه. ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه، فهو قول باطل وبدعة مضلة. فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات، وفعل المحظورات، بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله، وكذب رسوله ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، سواء كان المشرك مقرًا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلًا عنه، فقد قال إبليس: وأما آدم عليه السلام فإنه قال: والصنف الثالث: من الضالين في القدر: من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر، والأمر والنهي ـ كما يذكرون ذلك على لسان إبليس ـ وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه. وأما أهل الإيمان: فيؤمنون بالقضاء والقدر، والأمر والنهي، ويفعلون المأمور، ويتركون المحظور، ويصبرون على المقدور، كما قال تعالى: وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم علموا أن ذلك في كتاب، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فسلموا الأمر لله وصبروا على ما ابتلاهم به. وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى/الطاعات، ويدعون ربهم رغبا ورهبا، ويجتنبون محارمه ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علما منهم بأن التوبة فرض على العباد دائما، واقتداء بنبيهم، حيث يقول في الحديث الصحيح: (أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة)، وفي رواية: (أكثر من سبعين مرة)، وآخر سورة نزلت عليه: فقول القائل: إن الله لطف ذاته فسماها حقا، وكثفها فسماها خلقا، هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد، وهو باطل؛ فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف، وإن كان اللطيف غير الكثيف فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق، وحينئذ فالحق لا يكون خلقا، فلا يتصور أن ذات الحق تكون خلقا بوجه من الوجوه، كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه. وكذلك قول الآخر: [ظهر فيها حقيقة، واحتجب عنها مجازًا] فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور ولا احتجاب. / ثم قوله: [فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبا] كلام ينقض بعضه بعضا، فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين غير الآخر، ولم يكن الشاهد غير المشهود. ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي كذب؟ فأفحمه. وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه، كان هو الذي يكذب ويظلم، ويأكل ويشرب، وهذا يصرح به أئمة هؤلاء، كما يقول صاحب الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب وتصيبه الآفات، ويوصف بالمعايب والنقائص، كما أنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم. قال: فالعلى بنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية، سواء كانت محمودة عقلا وشرعًا وعرفا، أو مذمومة عقلا وشرعًا وعرفًا، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وقد أخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق وكلها حق له، كما أن صفات المخلوق حق للخالق. وقول القائل: لقد حق لي عشق الوجود وأهله يقتضي أنه يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب/ والخنازير، والبول والعذرة، وكل خبيث، مع أنه باطل عقلا وشرعًا، فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذ وآلمه ألما شديدًا لأبغضه وعاداه، بل اعتدى في أذاه، فعشق الرجل لكل موجود محال عقلا، محرم شرعا. وما ذكر عن بعضهم من قوله: [عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى] هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الشرك والإلحاد، والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة. وقول ابن عربي: [ظاهره خلقه، وباطنه حقه] هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك، فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان، أحدهما باطن والآخر ظاهر، والتفريق بين الوجـود والعين تفريق لا حقيقـة لـه، بـل هـو مـن أقـوال أهل الكذب والمين. وقول ابن سبعين: [رب مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط، والكثرة وهم] هو موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم ذلك. فإنه جعل العبد هالكا أي: لا وجود له، فلم يبق إلا وجود الرب، فقال: وأنتم ذلك، وكذلك قال: الله فقط، والكثرة وهم، فإنه على قوله لا موجود إلا الله. ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله، بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله. / وكان الشيخ قطب الدين ابن القسطلاني يسميهم [الليسية] ويقول: احذروا هؤلاء الليسية، ولهذا قال:والكثرة وهم وهذا تناقض، فإن قوله: [وهم] يقتضي متوهما، فإن كان المتوهم هو الوهم فيكون الله هو الوهم، وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود، وكذلك إن كان المتوهم هو الله فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا ـ مع أنه كفر ـ فهو يناقض قوله: الوجود واحد، وإن كان المتوهم غيره، فقد أثبت غير الله، وهذا يناقض أصله، ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا، بل تكون حقا. والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما ـ مبنيان على هذا الأصل، فإن قوله: يا صورة أنس سرها معنائي ** خطاب على لسان الحق، يقول لصورة الإنسان: يا صورة أنس سرها معنائي، أي هي الصورة وأنا معناها، وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة، وهو يقتضي التعدد، والتفريق بين المعنى والصـورة، فـإن كـان وجود المعنى هو وجود الصورة ـ كما يصرح به ـ فلا تعدد، وإن كان وجود هذا غير وجود هذا فهو متناقض في قوله. وقوله: ما خلقك للأمر ترى لولائي ** / كلام مجمل يمكن أن يريد به معنى صحيحا، أي لولا الخالق لما وجد المكلفون ولا خلق لأمر الله، لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا، وأن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال: شئنــاك فأنشـأنـاك خـلقًا بـشرًا ** كـي تشهدنا فـي أكمل الأشيـاء فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية، وهذا يشير إلى الحلول ـ وهو حلول الحق في الخلق ـ لكنه متناقض في كلامه، فإنه لا يرضي بالحلول، ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل، لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود، فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده، وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا، لكنه هو مذهبه المتناقض في نفسه. وأما الرجل الذي طلب من والده الحج، فأمره أن يطوف بنفس الأب فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط، فهذا كفر بإجماع المسلمين، فإن الطواف بالبيت العتيق مما أمر الله به ورسوله، وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك دينا فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره. وقوله: [ما فارقه الله طرفة عين قط] إن أراد به الحلول المطلق العام فهو مع بطلانه متناقض، فإنه لا فرق حينئذ بين الطائف والمطوف به، فلم يكن طواف/ هذا بهذا أولى من العكس، بل هذا يستلزم أنه يطاف بالكلاب، والخنازير، والكفار، والنجاسات، والأقذار، وكل خبيث وكل ملعون، لأن الحلول والاتحاد العام يتناول هذا كله. وقد قال مرة شيخهم الشيرازي لشيخه التلمساني، وقد مر بكلب أجرب ميت: هذا أيضًا من ذات الله؟ فقال: وثمَّ خارج عنه؟ ومر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال: لا تركضه فإنه منه، وهذا ـ مع أنه من أعظم الكفر والكذب الباطل في العقل والدين ـ فإنه متناقض، فإن الراكض والمركوض واحد، وكذلك الناهي والمنهي، فليس شيء من ذلك بأولى بالأمر والنهي من شيء، ولا يعقل مع الوحدة تعدد، وإذا قيل: مظاهر ومجالى، قيل: إن كان لها وجود غير وجود الظاهر والمتجلى، فقد ثبت التعدد وبطلت الوحدة، وإن كان وجود هذا هو وجود هذا لم يبق بين الظاهر، والمظهر، والمتجلي فيه فرق. وإن أراد بقوله: [ما فارقه الله طرفة عين] الحلول الخاص ـ كما تقوله النصارى في المسيح ـ لزم أن يكون هذا الحلول ثابتا لـه من حـين خلق ـ كمـا تقولـه النصارى في المسيح ـ فلا يكون ذلك حاصلا له بمعرفته وعبادته وتحقيقه وعرفانه. وحينئذ فلا يكون فرق بينه وبين غيره من الآدميين، فلماذا يكون الحلول ثابتا له دون غيره؟ وهذا شر من قول النصارى، فإن النصارى ادعوا ذلك في المسيح لكونه خلق من غير أب، وهؤلاء الشيوخ لم يفضلوا في نفس التخليق، وإنما فضلوا بالعبادة والمعرفة، والتحقيق والتوحيد. / وهذا أمر حصل لهم بعد أن لم يكن لهم، فإذا كان هذا هو سبب الحلول، وجب أن يكون الحلول فيهم حادثا لا مقارنا لخلقهم، وحينئذ فقولهم: إن الرب ما فارق أبدانهم أو قلوبهم طرفة عين قط، كلام باطل كيفما قدر. وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: إنه الصنم المعبود في الأرض، فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرًا يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهو كذب، فإن البيت لا يعبده المسلمون، ولكن يعبدون رب البيت بالطواف به، والصلاة إليه، وكذلك ما نقل من قولها: والله ما ولجه الله ولا خلا منه، كلام باطل عليها. وعلى مذهب الحلولية لا فرق بين ذاك البيت وغيره في هذا المعني، فلأي مزية يطاف به ويصلى إليه ويحج دون غيره من البيوت؟ وقول القائل: ما ولج الله فيه كلام صحيح. وأما قوله: ما خلا منه فإن أراد أن ذاته حالة فيه أو ما يشبه هذا المعنى، فهو باطل وهو مناقض لقوله: ما ولج فيه، وإن أراد به أن الاتحاد ملازم له لم يتجدد له ولوج ولم يزل غير حال فيه، فهذا مع أنه كفر وباطل يوجب ألا يكون للبيت مزية على غيره من البيوت إذ الموجودات كلها عندهم كذلك. / وأما البيتان المنسوبان إلى الحلاج: سبحان من أظهر ناسوتـــه ** سـر سنا لاهـوتـه الثـاقـب حـتى بدا فى خلقـه ظاهـرا ** في صورة الآكل والشارب فهذه قد بين بها الحلول الخاص ـ كما تقول النصارى في المسيح ـ وكان أبو عبد الله ابن خفيف الشيرازي ـ قبل أن يطلع على حقيقة أمر الحلاج ـ يذب عنه، فلما أنشد هذين البيتين قال: لعن الله من قال هذا. وقوله: وله: عقد الخلائق في الإله عقائدا ** وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه فهذا البيت يعرف لابن عربي، فإن كان قد سبقه إليه الحلاج وقد تمثل هو به، فإضافته إلى الحلاج صحيحة، وهو كلام متناقض باطل. فإن الجمع بين النقيضين في الاعتقاد في غاية الفساد. والقضيتان المتناقضتان بالسلب والإيجاب على وجه يلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى لا يمكن الجمع بينهما. وهؤلاء يزعمون أنه يثبت عندهم في الكشف ما يناقض صريح العقل، وإنهم يقولون بالجمع بين النقيضين وبين الضدين، وأن من سلك طريقهم يقول بمخالفة المعقول والمنقول، ولا ريب أن هذا من أفسد ما ذهب إليه أهل السفسطة. / ومعلوم أن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أعظم من الأولىاء، والأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته، ولم يجيؤوا بما تعلم العقول بطلانه، فهم يخبرون بمحارات العقول، لا بمحالات العقول، وهؤلاء الملاحدة يدعون أن محالات العقول صحيحة، وأن الجمع بين النقيضين صحيح، وأن ما خالف صريح المعقول وصحيح المنقول صحيح. ولا ريب أنهم أصحاب خيال وأوهام، يتخيلون في نفوسهم أمورًا يتخيلونها ويتوهمونها، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هي من خيالاتهم، والخيال الباطل يتصور فيه ما لا حقيقة له. ولهذا يقولون: أرض الحقيقة هي أرض الخيال، كما يقول ذلك ابن عربي وغيره، ولهذا يحكون حكاية ذكرها سعيد الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض، وكان من شيوخهم. وأما قوله: بيني وبينك إني تزاحمني ** فارفع بحقك إنيي من البين فإن هذا الكلام يفسر بمعانٍ ثلاثة، يقوله الملحد، ويقوله الزنديق، ويقوله الصديق. فالأول: مراده به طلب رفع ثبوت إنيته حتى يقال: إن وجوده هو وجود الحق، وإنيته هي إنية الحق، فلا يقال: إنه غير الله ولا سواه. /ولهذا قال سلف هؤلاء الملاحدة: إن الحلاج نصف رجل، وذلك أنه لم ترفع له الإنية بالمعنى، فرفعت له صورة. يقولون: إنه لما لم ترفع إنيته في الثبوت في حقيقة شهوده رفعت صورة فقتل، وهذا القول مع ما فيه من الكفر والإلحاد، فهو متناقض ينقض بعضه بعضا فإن قوله: بيني وبينك إني تزاحمني خطاب لغيره، وإثبات إنية بينه وبين ربه، وهذا إثبات أمور ثلاثة ولذلك يقول: فارفع بحقك إنيي من البين ** طلب من غيره أن يرفع إنيته، وهذا إثبات لأمور ثلاثة. وهذا المعنى الباطل هو الفناء الفاسد، وهو الفناء عن وجود السوى، فإن هذا فيه طلب رفع الإنية ـ وهو طلب الفناء ـ والفناء ثلاثة أقسام: فناء عن وجود السوى، وفناء عن شهود السوى، وفناء عن عبادة السوى. فالأول: هو فناء أهل الوحدة الملاحدة، كما فسروا به كلام الحلاج ـ وهو أن يجعل الوجود وجودًا واحدًا. وأما الثاني ـ وهو الفناء عن شهود السوى: فهذا هو الذي يعرض لكثير من السالكين، كما يحكى عن أبي يزيد وأمثاله وهو مقام الاصطلام، وهو أن يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمشهوده عن شهادته، وبمذكوره عن ذكره، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وهذا كما يحكى أن / رجلا كان يحب آخر، فألقى المحبوب نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني. فهذا حال من عجز عن شهود شىء من المخلوقات إذا شهد قلبه وجود الخالق، وهو أمر يعرض لطائفة من السالكين. ومن الناس من يجعل هذا من السلوك، ومنهم من يجعله غاية السلوك، حتى يجعلوا الغاية هو الفناء في توحيد الربوبية، فلا يفرقون بين المأمور والمحظور، والمحبوب والمكروه. وهذا غلط عظيم، غلطوا فيه بشهود القدر وأحكام الربوبية عن شهود الشرع والأمر والنهي، وعبادة الله وحده وطاعة رسوله، فمن طلب رفع إنيته بهذا الاعتبار، لم يكن محمودًا على هذا ولكن قد يكون معذورًا. وأما النوع الثالث ـ وهو الفناء عن عبادة السوى: فهذا حال النبيين وأتباعهم، وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه، وطاعته عن طاعة ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له، وهو الحنيفية ملة إبراهيم. ويدخل في هذا: أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله، فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي، الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. / ومن قال: فارفع بحقك إنيي من البين ** بمعنى أن يرفع هو نفسه فلا يتبع هواه، ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته، بل يكون عمله لله لا لهواه، وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته، كما قال تعالى: وهذا كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال:رأيت رب العزة في المنام فقلت: خدايي كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال ـ أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك ـ فيكون عملك لله واستعانتك بالله، كما قال تعالى: والقول المحكي عن ابن عربي: وبي حلفت وإن المقسم الله هو أيضا من إلحادهم وإفكهم جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله، فهو الحالف والمحلوف به، كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا بنفسه، فهو المرسِل والمرسَل إليه والرسول. وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك: لـهــا صـلواتــي بالمـقـــام أقيمهــا ** وأشهــد فيهـا أنهـا لــي صـلـــت كلانـا مـصـل واحـد ساجــد إلـــى ** حقيقتـه بالجمـع فــي كـل سجــدة /وما كان بي صلى سواي ولم تكن ** صلاتي لغيـري فـي أدا كـل ركعــة إلى أن قال: وما زلت إياهـا وإيــاي لـم تــزل ** ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبـــت وقد رفعت تـاء المخاطـب بيننــــا ** وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ** منادى أجابت من دعاني ولبــت إلى رسولا كنــت منــي مرســلا ** وذاتــي بآياتـي علـى استدلــــت وأما المنقول عن عيسى ابن مريم ـ صلوات الله عليه ـ فهو كذب عليه، وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح، وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى، فإن قوله: إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة فخلق من نوره آدم، وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة، فهذا الكلام ـ مع ما فيه من الكفر والإلحاد ـ متناقض، وذلك أن الله ـ سبحانه ـ يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو عبد مخلوق لله ـ قال لأصحابه: (إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من بين يدي). فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه ـ وهو أبلغ من رؤية نفسه ـ فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه؟ وأيضا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم، يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم. /ثم ذلك الشوق إن كان قديما، كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل، وإن كان محدثا فلابد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال: الشوق أيضا صفة نقص، ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى، وقد روى: (طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق) وهو حديث ضعيف. وقوله: (فخلق من نوره آدم وجعله كالمرآة، وأنا ذلك النور وآدم هو المرآة) يقتضي أن يكون آدم مخلوقا من المسيح، وهذا نقيض الواقع، فإن آدم خلق قبل المسيح، والمسيح خلق من مريم، ومريم من ذرية آدم فكيف يكون آدم مخلوقاً من ذريته؟.
وإن قيل: المسيح هو نور الله فهذا القول ـ وإن كان من جنس قول النصارى ـ فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: إن المسيح؛ هو الناسوت، واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن. وهم يقولون: اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح، إذ المسيح عندهم اسم اللاهوت والناسوت جميعا، وذلك يمتنع أن يخلق منه آدم، وأيضا فهم لا يقولون: إن آدم خلق من لاهوت المسيح. وأيضا، فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح: إن أراد به نوره الذي هو صفة لله، فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه، إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه، فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئا موجودا منفصلا قبل خلق آدم، فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقا من نور الله الذي هو المسيح. /وأيضا فإذا كان آدم كالمرآة، وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته، لا أن آدم هو ذاته، ولا مثال ذاته، ولا كذاته. وحينئذ، فإن كان المراد بذلك أن آدم يعرف الله تعالى، فيرى مثال ذاته العلمي في آدم، فالرب ـ تعالى ـ يعرف نفسه، فكان المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدم نفسه مثال لله، فلا يكون آدم هو المرآة، بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة. وأيضا، فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور، هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله أو ابن الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد، حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح. وأما قول ابن الفارض: وشاهدْ إذا استجليت ذاتــــك من ترى ** بغير مـــراء في المرآة الصقيلــة أغيرك فيـــــــها لاح أم أنــــت ناظر ** إلىك بها عند انعكاس الأشعة؟ فهذا تمثيل فاسد، وذلك أن الناظر في المرآة يرى مثال نفسه، فيرى نفسه بواسطة المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة، فقولهم بوحدة الوجود باطل، وبتقدير صحته ليس هذا مطابقا له. /وأيضا،فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شىء،فتخصيصهم بعد هذا آدم أو نحو المسيح يناقض قولهم بالعموم، وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص، كالنصارى والغالية من الشيعة، وجهال النساك ونحوهم. وأيضا، فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة، فالمرآة خارجة عن نفسه، فيرى نفسه أو مثال نفسه في غيره، والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى، فليس هناك مظهر مغاير للظاهر، ولا مرآة مغايرة للرائي. وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق، فإن قالوا: المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شىء في شىء، ولا تجلى شىء في شىء، ولا ظهر شىء لشىء، ولا تجلى شىء لشىء، وكان قوله: وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى كلاما متناقضا؛ لأن هنا مخاطِبا ومخاطَبا ومرآة تستجلى فيها الذات، فهذه ثلاثة أعيان، فإن كان الوجود واحداً بالعين بطل هذا الكلام، وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم.
|