الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهذه الآية مما تبين خطأ هؤلاء، فإنه سبحانه وتعالى قال: /وفي حديث ابن عمر ـ رضي اللّه عنهما ـ أبلغ من ذلك، والسياق لمسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يطوي اللّه السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟). رواه عن أبي بكر بن أبي شيبة، ورواه عثمان بن أبي شيبة قال: (يطوي اللّه السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله فيقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟). وفي حديث عبد اللّه بن مِقْسَم عن عبد اللّه بن عمر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: (يأخذ الجبار سمواته وأرضه ـ وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ـ ويقول: أنا الرحمن، أنا الملك، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئًا، أنا الذي أعيدها، أين الجبارون أين المتكبرون؟)، ويتميل رسول اللّه على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إنى أقول أساقط هو برسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟. رواه ابن منده، وابن خزيمة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وسعيد بن منصور وغيرهم من الأئمة الحفاظ النقاد الجهابذة. فإذا كان ـ سبحانه ـ يطوي السموات كلها بيمينه، وهذا قدرها عنده ـ كما /قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ـ: ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخَرْدَلَةٍ في يد أحدكم، وهو ـ سبحانه ـ بين لنا من عظمته بقدر ما نعقله، كما قال عبد العزيز الماجشُون [هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، الإمام المفتى الكبير، نزيل بغداد، وسمي بالماجشون؛ لأن وجنتيه كانتا حمراوين - والماجشون تطلق على الثياب المُصَبَّغَة - وثقه أبو زُرعة وأبو حاتم والنسائي وغيرهم، توفي ببغداد سنة 164هـ]: واللّه، ما دلهم على عظيم ما وصف من نفسه، وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، أن ذلك الذي ألقى في روعهم وخلق على معرفته قلوبهم. وقد قال تعالى: فإذا قال القائل: هو قادر على ما يشاء، قيل: فقل: هو قادر على أن ينزل ـ سبحانه وتعالى ـ وهو فوق عرشه، وإذا استدللت بمطلق القدرة والعظمة من غير تمييز، فما كان أبلغ في القدرة والعظمة، فهو أولي بأن يوصف به مما ليس/ كذلك؛ فإن من توهم العظيم ـ الذي لا أعظم منه ـ يقدر على أن يصغر حتى يحيط به مخلوقه الصغير، وجعل هذا من باب القدرة والعظمة، فقوله: إنه ينزل مع بقاء عظمته وعلوه على العرش، أبلغ في القدرة والعظمة، وهو الذي فيه موافقة الشرع والعقل. وهذا كما قد يقوله طائفة ـ منهم أبو طالب المكى ـ قال:إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن شاء لم يسعه شيء، وإن أراد عرفه كل شيء، وإن لم يرد لم يعرفه شيء، إن أحب وجد عند كل شيء، وإن لم يحب لم يوجد عند شيء، وقد جاوز الحد والمعيار، وسبق القيل والأقدار، ذو صفات لا تحصى، وقدر لا يتناهى، ليس محبوسًا في صورة، ولا موقوفًا بصفة، ولا محكومًا عليه بكلم، ولا يتجلى بوصف مرتين، ولا يظهر في صورة لاثنين، ولا يرد منه بمعنى واحد كلمتان، بل لكل تجل منه صورة، ولكل عبد عند ظهوره صفة، وعن كل نظرة كلام، وبكل كلمة إفهام، ولا نهاية لتجليه، ولا غاية لأوصافه. قلت: أبو طالب ـ رحمه اللّه ـ هو وأصحابه [السالمية] أتباع الشيخ أبي الحسن بن سالم صاحب سهل بن عبد اللّه التُّسْتَرِي، لهم من المعرفة والعبادة والزهد واتباع السنة والجماعة في عامة المسائل المشهورة لأهل السنة ما هم معروفون به، وهم منتسبون إلى إمامين عظيمين في السنة؛ الإمام أحمد بن حنبل، وسهل بن عبد اللّه التُّسْتَرِي، ومنهم من تفقه على مذهب مالك بن أنس كبيت الشيخ أبي محمد وغيرهم، وفيهم من هو على مذهب الشافعى. /فالذين ينتسبون إليهم، أو يعظمونهم، ويقصدون متابعتهم، أئمة هدى ـ رضوان اللّه عليهم أجمعين. وهم في ذلك كأمثالهم من أهل السنة والجماعة. وقل طائفة من المتأخرين إلا وقع في كلامها نوع غلط؛ لكثرة ما وقع من شبه أهل البدع؛ ولهذا يوجد في كثير من المصنفات في أصول الفقه، وأصول الدين، والفقه، والزهد، والتفسير، والحديث، من يذكر في الأصل العظيم عدة أقوال، ويحكى من مقالات الناس ألوانًا، والقول الذي بعث اللّه به رسوله لا يذكره؛ لعدم علمه به؛ لا لكراهته لما عليه الرسول. وهؤلاء وقع في كلامهم أشياء، أنكروا بعض ما وقع من كلام أبي طالب في الصفات ـ من نحو الحلول وغيره ـ أنكرها عليهم أئمة العلم والدين ونسبوهم إلى الحلول من أجلها؛ ولهذا تكلم أبو القاسم بن عساكر في أبي على الأهوازي لما صنف هذا مثالب أبي الحسن الأشعري، وهذا مناقبه، وكان أبو علي الأهوازي من السالمية فنسبهم طائفة إلى الحلول. والقاضي أبو يعلى له كتاب صنفه في الرد على السالمية. وهم فيما ينازعهم المنازعون فيه ـ كالقاضي أبي يعلى وغيره، وكأصحاب الأشعري، وغيرهم من ينازعهم ـ من جنس تنازع الناس، تارة يرد عليهم حق وباطل، وتارة يرد عليهم حق من حقهم، وتارة يرد باطل بباطل، وتارة يرد باطل بحق. /وكذلك ذكر الخطيب البغدادى في [تاريخه] أن جماعة من العلماء أنكروا بعض ما وقع في كلام أبي طالب في الصفات. وما وقع في كلام أبي طالب من الحلول سرى بعضه إلى غيره من الشيوخ، الذين أخذوا عنه كأبي الحكم بن بَرَّجَان ونحوه. وأما أبو إسماعيل الأنصاري ـ صاحب [منازل السائرين] ـ فليس في كلامه شيء من الحلول العام، لكن في كلامه شيء من الحلول الخاص في حق العبد العارف الواصل إلى ما سماه هو: [مقام التوحيد]، وقد باح منه بما لم يبح به أبو طالب، لكن كنى عنه. وأما [الحلول العام] ففي كلام أبي طالب قطعة كبيرة منه، مع تبريه من لفظ الحلول، فإنه ذكر كلامًا كثيرًا حسنًا في التوحيد كقوله: عالم لا يجهل، قادر لا يعجز، حي لا يموت، قيوم لا يغفل، حليم لا يسفه، سميع بصير، ملك لا يزول ملكه، قديم بغير وقت، آخر بغير حدّ، كائن لم يزل، إلى أن قال: وإنه أمام كل شيء، ووراء كل شيء، وفوق كل شيء، ومع كل شيء، ويسمع كل شيء، وأقرب إلى كل شيء من ذلك الشيء، وإنه مع ذلك غير محل للأشياء، وأن الأشياء ليست محلًا له، وأنه على العرش استوى كيف شاء بلا تكييف ولا تشبيه، وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وبكل شيء محيط. وذكر كلامًا آخر يتعلق بالمخلوقات وإحاطة بعضها ببعض بحسب ما رآه،/ ثم قال: واللّه ـ جل جلاله وعظم شأنه ـ هو ذات منفرد بنفسه، متوحد بأوصافه، بائن من جميع خلقه، لا يحل الأجسام ولا تحله الأعراض، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه من ذاته شيء، ليس في الخلق إلا الخلق ولا في الذات إلا الخالق. قلت: وهذا ينفي الحلول كما نفاه أولًا. ثم قال: فصل شهادة التوحيد ووصف توحيد الموقنين فشهادة الموقن يقينه أن اللّه هو الأول من كل شيء، وأقرب من كل شيء، فهو المعطى المانع، الهادي المضل، لا معطي ولا مانع ولا ضار ولانافع إلا اللّه، كما لا إله إلا اللّه، ويشهد قرب اللّه منه ونظره إليه، وقدرته عليه وحيطته به، فسبق نظره وهمه إلى اللّه قبل كل شيء، ويذكره في كل شيء، ويخلو قلبه له من كل شيء، ويرجع إليه بكل شيء، ويتأله إليه دون كل شيء، ويعلم أن اللّه أقرب إلى القلب من وريده، وأقرب إلى الروح من حياته، وأقرب إلى البصر من نظره، وأقرب إلى اللسان من ريقه بقرب هو وصفه لا يتقرب ولا يقرب. وأنه ـ تعالى ـ على العرش في ذلك كله، وأنه رفيع الدرجات من الثَّرَى، كما هو رفيع الدرجات من العرش، وأن قربه من الثرى ومن كل شيء كقربه من/ العرش، وأن العرش غير ملاصق له بحس، ولا تمكن فيه، ولا يذكر فيه بوجس ولا ناظر إليه بعين، ولا يحاط به فيدرك؛ لأنه ـ تعالى ـ محتجب بقدرته عن جميع بريته، ولا نصيب للعرش منه إلا كنصيب موقن عالم به، واجد لما أوجده منه من أن اللّه عليه، وأن العرش مطمئن به، وأن اللّه محيط بعرشه فوق كل شيء، وفوق تحت كل شيء، فهو فوق الفوق، تحت التحت، لا يحد بتحت فيكون له فوق؛ لأنه العلي الأعلى. أين كان لا يخلو من علمه وقدرته مكان، ولا يحد بمكان، ولا يفقد من مكان، ولا يوجد بمكان، فالتحت للأسفل، والفوق للأعلى. وهو ـ سبحانه ـ فوق كل فوق في العلو، وفوق كل تحت في السمو، هو فوق ملائكة الثرى، كما هو فوق ملائكة العرش والأماكن الممكنات، ومكانه مشيئته ووجوده قدرته، والعرش والثرى فما بينهما، هو حد للخلق الأسفل والأعلى بمنزلة خردلة في قبضته، وهو أعلى من ذلك محيط بجميع ذلك، كما لايدركه العقل ولا يكيفه الوهم، ولا نهاية لعلوه، ولا فوق لسموّه، ولا بعد في دنوه. إلى أن قال: وإن اللّه لا يحجبه شيء عن شيء، ولا يبعد عليه شيء، قريب من كل شيء بوصفه، وهو القدرة والدراك، والأشياء مبعدة بأوصافها؛/وهو البعد والحجب، فالبعد والإبعاد حكم مشيئته، والحدود والأقطار حجب بريته. إلى أن قال: إلى أن قال: هو على عرشه بإخباره لنفسه؛ فالعرش حد خلقه الأعلى وهو غير محدود بعرشه؛ والعرش محتاج إلى مكان، والرب ـ عز وجل ـ غير محتاج إليه؛ كما قال تعالى: إلى أن قال: وهو لا يسعه غير مشيئته، ولا يظهر إلا في أنوار صفته، ولا يوجد إلا في سعة البسطة. فإذا قبض أخفي ما أبدى، وإذا بسط أعاد ما أخفي. وكذلك جعله في كل رسم كون، وفعله بكل اسم مكان، ومما جل فظهر ومما دق فاستتر، لا يسعه غير مشيئته بقربه، ولا يعرف إلا بشهوده، ولا يرى إلا بنوره، هذا لأوليائه اليوم بالغيب في القلوب، ولهم ذلك عند المشاهدة بالأبصار، ولا يعرف إلا بمشيئته، إن شاء وسعه أدنى شيء، وإن لم يشأ لم يسعه كل شيء، إن أراد عرفه كل شيء، وإن لم يرد لم يعرفه شيء، إن أحب وجد عند كل شيء، وإن لم يحب لم يوجد بشيء. وذكر تمام كلامه كما حكيناه من قبل. قلت: وهذا الذي ذكره من قربه وإطلاقه، وأنه لايتجلى بوصف مرتين ولا يظهر في صورة لاثنين، هو حكم ما يظهر لبعض السالكين من قربه إلى قلوبهم، وتجليه لقلوبهم ـ لا أن هذا هو وصفه في نفس الأمر، وأنه كما تحصل هذه التجليات المختلفة تحصل يوم القيامة للعيون. وهذا الموضع مما يقع الغلط فيه لكثير من السالكين، يشهدون أشياء بقلوبهم فيظنون أنها موجودة في الخارج هكذا،حتى إن فيهم خلقًا منهم من المتقدمين والمتأخرين يظنون أنهم يرون اللّه بعيونهم؛ لما يغلب على قلوبهم / من المعرفة والذكر والمحبة،يغيب بشهوده فيما حصل لقلوبهم، ويحصل لهم فناء واصطلام، فيظنون أن هذا هو أمر مشهود بعيونهم، ولا يكون ذلك إلا في القلب؛ولهذا ظن كثير منهم أنه يرى اللّه بعينه في الدنيا. وهذا مما وقع لجماعة من المتقدمين والمتأخرين، وهو غلط محض حتى أورث مما يدعيه هؤلاء شكًا عند أهل النظر والكلام الذين يجوزون رؤية اللّه في الجملة، وليس لهم من المعرفة بالسنة ما يعرفون به؛ هل يقع في الدنيا أو لا يقع؟ فمنهم من يذكر في وقوعها في الدنيا قولين، ومنهم من يقول يجوز ذلك. وهذا كله ضلال؛ فإن أئمة السنة والجماعة متفقون من أن اللّه لا يراه أحد بعينه في الدنيا ولم يتنازعوا إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد روى نفي رؤيتنا له في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه، منها ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال ـ لما ذكر الدجال ـ قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت) وموسى بن عمران ـ عليه السلام ـ قد سأل الرؤية، فذكر اللّه ـ سبحانه ـ قوله: وهؤلاء منهم من يقول: إن موسى رآه، وإن الجبل كان حجابه، فلما جعل الجبل دكا رآه، وهذا يوجد في كلام أبي طالب ونحوه. ومنهم من يجعل الرائي هو المرئي، فهو اللّه فيذكرون اتحادًا، وأنه أفنى موسى عن نفسه حتى/ كان الرائي هو المرئي فما رآه عندهم موسى، بل رأى نفسه بنفسه، وهذا يدعونه لأنفسهم. والاتحاد والحلول باطل. وعلى قول من يقول به إنما هذا في الباطن والقلب، لا في الظاهر؛ فإن غاية ذلك ما تقوله النصارى في المسيح، ولم يقولوا: إن أحدًا رأى اللاهوت الباطن المتُدَرِّع [أي: المتلبس، وفيها معنى الدخول في الشيء]. بالناسوت. وهذا الغلط يقع كثيرًا في السالكين. يقع لهم أشياء في بواطنهم فيظنونها في الخارج في ذلك بمنزلة الغالطين من نظار المتفلسفة ونحوهم؛ حيث يتصورون أشياء بعقولهم كالكليات والمجردات ونحو ذلك، فيظنونها ثابتة في الخارج، وإنما هى في نفوسهم؛ ولهذا يقول أبو القاسم السهيلي وغيره: نعوذ باللّه من قياس فلسفي، وخيال صوفي. ولهذا يوجد التناقض الكثير في كلام هؤلاء وهؤلاء. وأما الذين جمعوا الآراء الفلسفية الفاسدة والخيالات الصوفية الكاسدة كابن عربى وأمثاله، فهم من أضل أهل الأرض؛ ولهذا كان الجنيد ـ رضي اللّه عنه ـ سيد الطائفة إمام هدى، فكان قد عرف ما يعرض لبعض السالكين، فلما سئل عن التوحيد قال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم. فبين أنه يميز المحدث عن القديم تحذيرًا عن الحلول والاتحاد. فجاءت / الملاحدة ـ كابن عربى ونحوه ـ فأنكروا هذا الكلام على الجنيد؛ لأنه يبطل مذهبهم الفاسد. والجنيد وأمثاله أئمة هدى، ومن خالفه في ذلك فهو ضال، وكذلك غير الجنيد من الشيوخ تكلموا فيما يعرض للسالكين، وفيما يرونه في قلوبهم من الأنوار وغير ذلك، وحذروهم أن يظنوا أن ذلك هو ذات اللّه ـ تعالى . وقد خطب عروة بن الزبير من عبد اللّه بن عمر ابنته، وهو في الطواف، فقال: أتحدثنى في النساء، ونحن نتراءى اللّه في طوافنا؟! فهذا كله وما أشبهه لم يريدوا به أن القلب ترفع جميع الحجب بينه وبين اللّه حتى تكافح الروح ذات اللّه كما يرى هو نفسه؛ فإن هذا لا يمكن لأحد في الدنيا، ومن جوز ذلك إنما جوزه للنبى صلى الله عليه وسلم؛ كقول ابن عباس: رأي محمد ربه بفؤاده مرتين، ولكن هذا التجلي يحصل بوسائط بحسب إيمان العبد ومعرفته وحبه؛ ولهذا تتنوع أحوال الناس في ذلك كما تتنوع رؤيتهم للّه تعالى في المنام، فيراه كل إنسان بحسب إيمانه، ويرى في صور متنوعة. فهذا الذي قاله أبوطالب وهؤلاء، إذا قيل مثله فيما يحصل في القلوب، كان مقاربًا، مع أن في بعض ذلك نظرًا. وإما أن يقال: إن الرب ـ تعالى ـ في نفسه هوكذلك، فليس الأمر كذلك. أما قوله: أقرب إلى الروح من حياته، وأقرب إلى البصر من نظره وإلى/اللسان من ريقه بقرب هو وصفه، وقوله: أقرب من حبل الوريد، فهذا ليس في كتاب اللّه ولا سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا قاله أحد من السلف، لا من الصحابة، ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة وأمثالهم من أئمة المسلمين، ولا الشيوخ المقتدى بهم من شيوخ المعرفة والتصوف. وليس في القرآن وصف الرب ـ تعالى ـ بالقرب من كل شيء أصلا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام؛ كقوله تعالى: وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير؛ فقال: (يأيها الناس، ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصَمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته) فقال: (إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم) لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود، وكذلك قول صالح ـ عليه السلام ـ: /وأسماء اللّه المطلقة؛ كاسمه السميع، والبصير، والغفور، والشكور، والمجيب، والقريب، لا يجب أن تتعلق بكل موجود، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه، واسمه العليم لما كان كل شيء يصلح أن يكون معلومًا تعلق بكل شيء. وأما قوله تعالى: وهذه الأقوال ضعيفة؛ فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود، حتى يحتاجوا أن يقولوا بالعلم والقدرة والرؤية، ولكن بعض الناس لما ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء. وكأنهم ظنوا أن لفظ [القرب] مثل لفظ [المعية]، فإن لفظ المعية في سورة / الحديد والمجادلة في قوله تعالى: وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا: هو معهم بعلمه، وقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم فيه أحد يعتد بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وسفيان الثوري، وأحمد ابن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي، ثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مَعْمَر،عن نوح بن ميمون المضروب، عن بُكَيْر بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: وقال عبد اللّه بن أحمد:ثنا أبي، ثنا نوح بن ميمون المضروب، عن بكير بن معروف، ثنا أبو معاوية،عن مقاتل بن حيان، عن الضحاك في قوله تعالى: وقال حنبل بن إسحاق في كتاب [السنة]: قلت لأبي عبد اللّه أحمد بن حنبل: ما معنى قوله تعالى: وقد بسط الإمام أحمد الكلام على معنى المعية في [الرد على الجهمية]. ولفظ المعية في كتاب اللّه جاء عامًا كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصًا كما في قوله:/ وأيضًا، فلفظ [المعية] ليست في لغة العرب ولا شيء من القرآن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى؛ كما في قوله: وقد بسط الكلام عليه في موضع آخر، وبين أن لفظ المعية في اللغة ـ وإن اقتضى المجامعة والمصاحبة والمقارنة ـ فهو إذا كان مع العباد لم يناف ذلك علوه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه. فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. وقد قال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن الفضل: حدثنا محمد بن على بن الحسن بن شَقِيق، ثنا محمد بن مُزِاحم، ثنا بُكَيْر بن معروف، عن مقاتل بن سليمان / /في قوله تعالى: وبهذا الإسناد عن مقاتل بن سليمان قال: بلغنا ـ واللّه أعلم ـ في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ} قال: قبل كل شيء{وَالْآخِرُ} قال: بعد كل شيء {وَالظَّاهِرُ} قال: فوق كل شيء {وَالْبَاطِنُ} قال: أقرب من كل شيء؛ وإنما نعنى بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه وهذا ليس مشهورًا عن مقاتل كشهرة الأول الذي روى عنه من وجوه لم يجزم بما قاله، بل قال: بلغنا، وهو الذي فسر الباطن بالقريب، ثم فسر القرب بالعلم والقدرة، ولا حاجة إلى هذا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأبي ذر ـ رضي اللّه عنهما ـ في تفسير هذه الأسماء، وحديث [الإدلاء] ما قد بسطنا القول عليه في [مسألة الإحاطة]. /وكذلك هذا الحديث ذكره قتادة في تفسيره، وهو يبين أنه ليس معنى الباطن أنه القرب، ولا لفظ الباطن يدل على ذلك، ولا لفظ القرب في الكتاب والسنة على جهة العموم كلفظ المعية، ولا لفظ القرب في اللغة والقرآن كلفظ المعية؛ فإنه إذا قال: هذا مع هذا؛ فإنه يعنى به المجامعة والمقارنة والمصاحبة،ولا يدل على قرب إحدى الذاتين من الأخرى،ولا اختلاطها بها؛ فلهذا كان إذا قيل:هو معهم، دل على أن علمه وقدرته وسلطانه محيط بهم، وهو مع ذلك فوق عرشه، كما أخبر القرآن والسنة بهذا. وقال تعالى: وكذلك في حديث [الأوعال] [جمع الوَعْل، وهو تيْس الجبل] الذي في [السنن] قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واللّه فوق عرشه ويعلم ما أنتم عليه)، ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال: هو فوق عرشه وهو قريب من كل شيء، بل قال: قال ابن أبي حاتم: ثنا أبي، ثنا يحيى بن المغيرة، ثنا جرير، عن عبدة بن/ أبي بَرْزَةَ السجستاني، عن الصلت بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال:جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول اللّه، أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأنزل اللّه تعالى: ولا يقال في هذا: قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء، قادر على كل شيء، وهم لم يشكوا في ذلك ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه؛ ولهذا قال تعالى: وطائفة من أهل السنة تفسر [القرب] في الآية والحديث بالعلم؛ لكونه هو المقصود؛ فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول: إنه قريب من كل شيء، بمعنى العلم والقدرة؛ فإن هذا قد قاله بعض السلف، كما تقدم عن مقاتل بن حيان وكثير من الخلف، لكن لم يقل أحد منهم: إن نفس ذاته قريبة من كل شيء. وهذا المعنى يقر به جميع المسلمين، من يقول: إنه فوق العرش، ومن يقول: إنه ليس فوق العرش. وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة الماجشُون قال: ويلزم الملحد على اعتقاده أن يكون معبوده مخالطًا لدم الإنسان ولحمه، وألا يجرد الإنسان تسمية المخلوق حتى يقول: خالق ومخلوق؛ لأن معبوده بزعمه داخل حبل الوريد من الإنسان وخارجه، فهو على قوله ممتزج به غير مباين له. قال: وقد أجمع المسلمون من أهل السنة على أن اللّه على عرشه، بائن من جميع خلقه، وتعالى اللّه عن قول أهل الزيغ، وعما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. قال: وكذلك الجواب في قوله فيمن يحضره الموت قلت: وهكذا ذكر غير واحد من المفسرين مثل الثعلبى وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهما في قوله: وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات الباري ـ جل وعلا ـ قريبة من وريد العبد ومن الميت، ولما ظنوا أن المراد قربه وحده دون قرب الملائكة فسروا ذلك بالعلم والقدرة كما في لفظ المعية، ولا حاجة إلى هذا؛ فإن المراد بقوله: وكذلك قال أبو حامد موافقًا لأبي طالب المكي في بعض ما قال، مخالفًا له في البعض؛ فإنه من نفاة علو اللّه نفسه على العرش، وإنما المراد عنده أنه قادر عليه مستول عليه، أو أنه أفضل منه. قال: وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله/ والمعنى الذي أراده، استواء منزهًا عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطيف قدرته، مقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقيته لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام، وأنه لا يحل في شيء، ولا يحل فيه شيء، إلى أن قال: وإنه بائن بصفاته من خلقه، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته. قلت: فالفوقية التي ذكرها في القدرة والاستيلاء [فوقية القدرة]، وهو أنه أفضل المخلوقات، و[القرب] الذي ذكره هو العلم أو هو العلم والقدرة. وثبوت علمه وقدرته واستيلائه على كل شيء هو مما اتفق عليه المسلمون، وتفسير قربه بهذا قاله جماعة من العلماء، لظنهم أن القرب في الآية هو قربه وحده، ففسروها بالعلم لما رأوا ذلك عامًا. قالوا: هو قريب من كل موجود بمعنى العلم، وهذا لا يحتاج إليه كما تقدم، وقوله: /ثم إنه ـ سبحانه وتعالى ـ عالم بما يسر من القول وما يجهر به، وعالم بأعماله، فلا معنى لتخصيص حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ليس قريبًا إلى قوله الظاهر، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه. قال تعالى: ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم؛ أنه قال تعالى: /وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد، أو أن ذاته أقرب إلى الميت من أهله فهذا في غاية الضعف؛ وذلك أن الذين يقولون: إنه في كل مكان، أو إنه قريب من كل شيء بذاته، لا يخصون بذلك شيئًا دون شيء، ولا يمكن مسلمًا أن يقول: إن اللّه قريب من الميت دون أهله، ولا إنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء. وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان، أو قريب من جميع بدن الإنسان، أو هو في أهل الميت كما هو في الميت، فكيف يقول: وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة؛ فإنه قال: وكذلك قوله في الآية الأخرى: وأيضًا، فإنه قال: ولا يجوز أن يراد به قرب الرب الخاص، كما في قوله: ومما يدل على ذلك: أنه ذكره بصيغة الجمع، فقال: فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره اللّه ـ تعالى ـ في كتابه دل على أن المراد أنه ـ سبحانه ـ يفعل ذلك بجنوده وأعوانه من الملائكة؛ فإن صيغة[نحن] يقولها المتبوع المطاع العظيم الذي له جنود يتبعون أمره، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم، وهو خالقهم وربهم، فهو ـ سبحانه ـ العالم بما توسوس به نفسه، وملائكته تعلم؛ فكان لفظ[نحن] هنا هو المناسب. وكذلك قوله: وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذكر صفية ـ رضي اللّه عنها ـ: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم). وقرب الملائكة والشيطان من قلب ابن آدم مما تواترت به الآثار، سواء كان العبد مؤمنا أو كافرًا. وإما أن تكون ذات الرب في قلب كل أحد كافر أو مؤمن فهذا باطل، لم يقله أحد من سلف الأمة ولا نطق به كتاب ولا سنة، بل الكتاب والسنة وإجماع السلف مع العقل يناقض ذلك. ولهذا لما ذكر اللّه ـ سبحانه ـ قربه من داعيه وعابديه قال: وذلك لأن اللّه ـ سبحانه ـ قريب من قلب الداعي، فهو أقرب إليه من عنق راحلته. وقربه من قلب الداعي له معنى متفق عليه بين أهل الإثبات الذين يقولون: إن اللّه فوق العرش، ومعنى آخر فيه نزاع. فالمعنى المتفق عليه عندهم يكون بتقريبه قلب الداعي إليه، كما يقرب إليه قلب الساجد؛ كما ثبت في الصحيح: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فالساجد يقرب الرب إليه فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض. ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر صار الآخر إليه قريبًا بالضرورة. وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة قربت مكة منه. وقد وصف اللّه أنه يقرب إليه من يقربه من الملائكة والبشر، فقال: /وأما قرب الرب قربًا يقوم به بفعله القائم بنفسه، فهذا تنفيه الكُلابية ومن يمنع قيام الأفعال الاختيارية بذاته. وأما السلف وأئمة الحديث والسنة، فلا يمنعون ذلك، وكذلك كثير من أهل الكلام. فنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، ونزوله عشية عرفة، ونحو ذلك هو من هذا الباب؛ ولهذا حد النزول بأنه إلى السماء الدنيا، وكذلك تكليمه لموسى ـ عليه السلام ـ فإنهلو أريد مجرد تقريب الحجاج وقوام الليل إليه، لم يخص نزوله بسماء الدنيا، كما لم يخص ذلكفي إجابة الداعي وقرب العابدين له، قال تعالى: وقال: (من تقرب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا) وهذه الزيادة تكون على الوجه المتفق عليه، بزيادة تقريبه للعبد إليه جزاء على تقربه باختياره. فكلما تقرب العبد باختياره قَدْر شبر زاده الرب قربًا إليه حتى يكون كالمتقرب بذراع. فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب والإيمان به، وهو المثل الأعلى، وهذا ـ أيضًا ـ لا نزاع فيه، وذلك أن العبد يصير محبًا لما أحب الرب، مبغضًا لما أبغض، مواليًا لمن يوالي، معاديا لمن يعادي، فيتحد مراده مع المراد المأمور به الذي يحبه اللّه ويرضاه. وهذا مما يدخل في موالاة العبد لربه، وموالاة الرب لعبده. فإن الولاية ضد العداوة، والولاية تتضمن المحبة والموافقة، والعداوة تتضمن البغض /والمخالفة. وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول اللّه تعالى: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه). فأخبر ـ سبحانه وتعالى ـ أنه يقرب العبد بالفرائض، ولا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه اللّه فيصير العبد محبوبًا للّه، كما قال تعالى: /فقد أخبر أنه يحب المتبعين لرسوله والمجاهدين في سبيله، وأنه يحب المتقين والصابرين والتوابين والمتطهرين، وهو ـ سبحانه ـ يحب كل ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب. وقوله: وأما الكتابة فرسله يكتبون، كما قال هاهنا: فقوله: /فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة على اللسان، وقال تعالى: وقد غلط طائفة ظنوا أنه نفسه الذي يسمع منه القرآن، وهو الذي يقرؤه بنفسه بلا واسطة عند قراءة كل قارئ، كما غلطوا في القرب، وهم طائفة من متأخري أهل الحديث ومتأخري الصوفية. ومن الناس من يفسر قول القائلين: بأنه أقرب إلى كل شيء من نفس ذلك الشيء؛ بأن الأشياء معدومة من جهة أنفسها، وإنما هي موجودة بخلق الرب ـ سبحانه وتعالى ـ لها، وهي باقية بإبقائه، وهو ـ سبحانه وتعالى ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا موجود إلا بإيجاده، ولا باقى إلا بإبقائه. فلو قدر أنه لم يشأ خلقها وتكوينها لكانت باقية على العدم لا وجود لها أصلا، فصار هو أقرب إليها من ذواتها، فتكوين الشيء وخلقه وإيجاده هو فعل الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وبه كان الشيء موجودًا وكان ذاتًا محققة في الخارج. والموجود دائما محتاج إلى خالقه لا يستغنى عنه طرفة عين، فكان موجودًا بنسبته إلى خالقه، ومعدومًا بنسبته إلى نفسه، فإنه بالنظر إلى نفسه لا يستحق إلا العدم، فكان الرب أقرب إلى المخلوقات من المخلوقات إلى أنفسها بهذا الاعتبار. وقد يفسر بعضهم قوله تعالى: وقد يفسرون بذلك قول لَبِيد: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل** ولا يقال: هذه المقالة صحيحة في نفسها، فإنها لولا خلق اللّه للأشياء لم تكن موجودة، ولولا إبقاؤه لها لم تكن باقية. وقد تكلم النظار في سبب افتقارها إليه: هل هو الحدوث، فلا تحتاج إلا في حال الإحداث كما يقول ذلك من يقوله من الجهمية والمعتزلة ونحوهم، أو هو الإمكان الذي يظن أنه يكون بلا حدوث بل بكون الممكن المعلول قديمًا أزليًا،ويمكن افتقارها في حال البقاء بلا حدوث كما يقوله ابن سينا وطائفة. وكلا القولين خطأ، كما قد بسط في موضعه، وبين أن الإمكان والحدوث متلازمان كما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين حتى قدماء الفلاسفة كأرسطو وأتباعه؛ فإنهم أيضًا يقولون: إن كل ممكن فهو محدث، وإنما خالفهم في ذلك ابن سينا وطائفة؛ ولهذا أنكر ذلك عليه إخوانه من الفلاسفة كابن رشد وغيره، والمخلوقات مفتقرة إلى الخالق، فالفقر وصف لازم لها دائما لا تزال مفتقرة إليه. /والإمكان والحدوث دليلان على الافتقار، لا أن هذين الوصفين جعلا الشيء مفتقرًا بل فقر الأشياء إلى خالقها لازم لها لا يحتاج إلى علة، كما أن غنى الرب لازم لذاته لا يفتقر في اتصافه بالغنى إلى علة، وكذلك المخلوق لا يفتقر في اتصافه بالفقر إلى علة، بل هو فقير لذاته لا تكون ذاته إلا فقيرة فقرًا لازمًا لها، ولا يستغنى إلا باللّه. وهذا من معاني [الصمد]، وهو الذي يفتقر إليه كل شيء، ويستغنى عن كل شيء. بل الأشياء مفتقرة من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته، فما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا يصلح ولا ينفع ولا يدوم، وهذا تحقيق قوله: فلو لم يخلق شيئًا بمشيئته وقدرته لم يوجد شيء، وكل الأعمال إن لم تكن لأجله، فيكون هو المعبود المقصود المحبوب لذاته، وإلا كانت أعمالًا فاسدة؛ فإن الحركات تفتقر إلى العلة الغائية كما افتقرت إلى العلة الفاعلية، بل العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلًا، ولولا ذلك لم يفعل. فلولا أنه المعبود المحبوب لذاته لم يصلح قط شيء من الأعمال والحركات، بل كان العالم يفسد، وهذا معنى قوله: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل** / وهو كالدعاء المأثور: (أشهد أن كل معبود من لدن عرشك إلى قرار أرضك باطل، إلا وجهك الكريم). ولفظ[الباطل] يراد به المعدوم، ويراد به ما لا ينفع، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته لزوجته، فإنهن من الحق). وقوله عن عمر ـ رضي اللّه عنه ـ: (إن هذا الرجل لا يحب الباطل)، ومنه قول القاسم بن محمد لما سئل عن الغناء قال: إذا ميز اللّه يوم القيامة الحق من الباطل في أيهما يجعل الغناء؟ قال السائل: من الباطل. قال: فإن الآلهة موجودة ولكن عبادتها ودعاؤها باطل لا ينفع، والمقصود منها لايحصل، فهو باطل، واعتقاد ألوهيتها باطل، أي غير مطابق، واتصافها بالإلهية في أنفسها باطل، لا بمعنى أنه معدوم. ومنه قوله تعالى: /فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل) هذا معناه: أن كل معبود من دون اللّه باطل، كقوله: ودخل عثمان أو غيره على ابن مسعود ـ وهو مريض ـ فقال: كيف تجدك؟ قال: أجدني مردودًا إلى اللّه مولاي الحق، قال تعالى:
|