الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقوله تعالى: لكن المقصود هنا: دلالة الآية عليه، وذلك من لفظ [الصلاة] فإن [الصلاة] هنا اسم جنس. ليس المراد صلاة واحدة. فقد أمر إذا قام إلى جنس الصلاة أن يتوضأ. والجنس يتناول جميع ما يصليه من الصلوات في جميع عمره. فإن قيل: هذا يقتضي عموم الجنس، فمن أين التكرار؟ فإذا/ قام إلى أي صلاة توضأ، لكن من أين أنه إذا قام إليها يومًا آخر يتوضأ؟ قيل: لأنه في هذا اليوم الثاني قائم إلى الصلاة، فهو مأمور بالوضوء إذا قام إلى مسمي الصلاة، فحيث وجد قيام إلى مسمي الصلاة فهو مأمور بالوضوء متي وجد ذلك. فعليه الوضوء. وهو كقوله تعالى: وقد تنازع الناس في الأمر المطلق: هل يقتضي التكرار؟ على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. قيل: يقتضيه، كقول طائفة ـ منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل. وقيل: لا يقتضيه، كقول كثير ـ منهم أبو الخطاب. وقيل: إن كان معلقًا بسبب اقتضي التكرار، وهذا هو المنصوص عن أحمد كآية الطهارة والصلاة. /فإن قيل: فهذا لا يتكرر في الطلاق والعتق المعلق. قيل: لأن عتق الشخص الواحد لا يتكرر. وكذلك الطلاق المعلق نفسه لا يتكرر، بل الطلقة الثانية حكمها غير حكم الأولي. وهو محدود بثلاث. ولكن إذا قال الناذر:لله علي ـ إن رزقني الله ولدًا ـ أن أعتق عنه. وإذا أعطاني مالاً أن أزكيه، أو أتصدق بعشرة: تكرر، وبسط هذا له موضع آخر.
قوله تعالى: فقال طائفة من الناس: [أو] بمعنى الواو، وجعلوا التقدير: وجاء أحد منكم من الغائط، ولامستم النساء. قالوا: لأن من مقتضي [أو] أن يكون كل من المرض والسفر موجبًا للتيمم؛ كالغائط والملامسة. وهذا مخالف لمعني الآية،/ فإن [أو] ضد الواو، والواو: للجمع والتشريك بين المعطوف والمعطوف عليه. وأما معني: [أو] فلا يوجب الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، بل يقتضي إثبات أحدهما. لكن قد يكون ذلك مع إباحة الآخر كقوله: جالس الحسن أو ابن سيرين؛ وتعلم الفقه أو النحو، ومنه خصال الكفارة يخير بينها، ولو فعل الجميع جاز. وقد يكون مع الحصر، يقال للمريض: كلُ ْهذا، أو هذا. وكذلك في الخبر: هي لإثبات أحدهما، إما مع عدم علم المخاطب ـ وهو الشك ـ أو مع علمه وهو الإيهام، كقوله تعالى: ولا ينبغي ـ علي قولهم ـ أن يكون المراد: ألا يباح التيمم إلا مع هذين، بل التقدير: بالاحتلام، أو حدث بلا غائط، فالتيمم هنا أولي، وهو ـ سبحانه ـ لما أمر كل قائم إلى الصلاة بالوضوء، أمرهم إذا كانوا جنبًا: أن يطهروا، وفيهم المحدث بغير الغائط، كالقائم من النوم، والذي خرجت منه الريح. ومنهم الجنب بغير جماع، بل باحتلام، فالآية عمت كل محدث وكل جنب. فقال تعالى: فقد يظن الظان: أنها لا تباح إلا مع خفيف الحدث والجنابة كالريح والاحتلام بخلاف الغائط والجماع، فإن التيمم مع ذلك، والصلاة معه، مما تستعظمه النفوس وتهابه. فقد أنكر بعض كبار الصحابة تيمم الجنب مطلقًا. وكثيرًا من الناس يهاب الصلاة مع الحدث بالتيمم، إذا كان جعل التراب طهورًا كالماء، هو مما فضل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته. ومن لم يستحكم إيمانه، لا يستجيز ذلك. فبين الله ـ سبحانه ـ أن التيمم مأمور به مع تغليظ الحدث بالغائط، وتغليظ الجنابة بالجماع. والتقدير: وإن كنتم مرضي أو مسافرين، أو كان مع ذلك ـ جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء. ليس المقصود: أن يجعل الغائط والجماع فيما ليس معه مرض أو سفر، فإنه إذا جاء أحد منكم من الغائط، أو لامس النساء، وليسوا مرضي ولا مسافرين. فقد بين ذلك بقوله وأيضًا، فتخصيصه المجيء من الغائط والجماع، يجوز أن يكون لا يتيمم في هذه الحالة، دون ما هو أخف من ذلك، من خروج الريح ومن/الاحتلام. فإن الريح كالنوم، والاحتلام يكون في المنام. فهناك يحصل الحدث والجنابة والإنسان نائم. فإذا كان في تلك الحال يؤمر بالوضوء والغسل، فإذا حصل ذلك وهو يقظان، فهو أولى بالوجوب؛ لأن النائم رفع عنه القلم، بخلاف اليقظان. ولكن دلت الآية علي أن الطهارة تجب، وإن حصل الحدث والجنابة بغير اختياره، كحدث النائم واحتلامه. وإذا دلت علي وجوب طهارة الماء في الحال، فوجوبها مع الحدث الذي حصل باختياره أو يقظته أولى، وهذا بخلاف التيمم؛ فإنه لا يلزم إذا أباح التيمم للمعذور الذي أحدث في النوم باحتلام أو ريح أن يبيحه لمن أحدث باختياره. فقال تعالى: ولو كانت [أو] بمعنى الواو، كان تقدير الكلام: أن التيمم لا يباح إلا بوجود الشرطين: المرض، والسفر، مع المجيء من الغائط والاحتلام. فيلزم من هذا ألا يباح مع الاحتلام ولا مع الحدث بلا غائط، كحدث النائم، ومن خرجت منه الريح. فإن الحكم إذا علق بشرطين لم يثبت مع أحدهما، وهذا ليس مرادًا قطعًا، بل هو ضد/ الحق؛ لأنه إذا أبيح مع الغائط الذي يحصل بالاختيار، فمع الخفيف وعدم الاختيار أولى. فتبين أن معنى الآية: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا. وإن كان مع ذلك قد جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. كما يقال: وإن كنت مريضًا أو مسافرًا. والتقدير: وإن كنتم أيها القائمون إلى الصلاة ـ وأنتم مرضي أو مسافرون ـ قد جئتم من الغائط أو لامستم النساء؛ ولهذا قال من قال: إنها خطاب للقائمين من النوم: إن التقدير إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء. فإنه ـ سبحانه ـ ذكر أولاً فعلهم بقوله: ولكن الذي رجحناه: أن قوله: /وعلى هذا، فالمعنى: إذا قمتم إلى الصلاة فتوضؤوا، أو اغتسلوا إن كنتم جنبًا. وإن كنتم مرضى أو مسافرين، أو فعلتم ما هو أبلغ في الحدث ـ جئتم من الغائط أو لامستم النساء ـ إذ التقدير: وإن كنتم مرضى أو مسافرين، وقد قمتم إلى الصلاة أو فعلتم ـ مع القيام إلى الصلاة، والمرض أو السفر ـ هذين الأمرين: المجيء من الغائط، والجماع، فيكون قد اجتمع قيامكم إلى الصلاة والمرض والسفر وأحد هذين، فالقيام موجب للطهارة، والعذر مبيح، وهذا القيام. فإذا قمتم وجب التيمم إن كان قيامًا مجردًا، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء. ولكن من الناس من يعطف قوله: يقول: إن كنتم مرضي أو علي سفر قائمين إلى الصلاة فقط بالقيام /من النوم أو القعود المعتاد، أو كنتم ـ مع هذا ـ قد جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء. فقوله تعالى: وإيضاح هذا: أنه من باب عطف الخاص علي العام الذي يخص بالذكر لامتيازه. وتخصيصه يقتضي ذلك. ومثل هذا يقال: إنه داخل في العام، ثم ذكر بخصوصه. ويقال: بل ذكره خاصًا يمنع دخوله في العام. وهذا يجيء في العطف بأو، وأما بالواو: فمثل قوله تعالى: وأما في [أو] ففي مثل قوله تعالى: قال عامة المفسرين: [الجنف]: الخطأ و [الإثم]: العمد. قال أبو سليمان الدمشقي: الجنف: الخروج عن الحق. وقد يسمي المخطئ: العامد. إلا أن المفسرين علقوا [الجنف] على المخطئ، و [الإثم] علي العامد. ومثله قولـه: قال ابن زيد: الآثم: المذنب الظالم والكفور، هذا كله واحد. قال ابن عطية: هو مخير في أنه يعرف الذي ينبغي ألا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم، وهو كفور./ولم يكن للأمة من الكثرة بحيث يغلب الإثم على المعاصي. قال: واللفظ إنما يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة، أو كفور من المشركين.وقال أبو عبيدة وغيره: ليس فيها تخيير [أو] بمعنى الواو. وكذلك قال طائفة: منهم البغوي، وابن الجوزي. وقال المهدي: أي لا تطع من أثم أو كفر. ودخول [أو] يوجب ألا تطيع كل واحد منهما على انفراده. ولو قال: ولا تطع منهما آثمًا أو كفورًا، لم يلزم النهي إلا في حال اجتماع الوصفين. وقد يقال: إن [الكفور] هو الجاحد للحق، وإن كان مجتهدًا مخطئًا. فيكون هذا أعم من وجه، وهذا أعم من وجه التمسك. وقوله تعالى: ثم قد يقال: لفظ [الجنب] يتناول النوعين، وخص المجامع بالذكر، وكذلك [القائم إلى الصلاة] يتناول من جاء من الغائط ومن أحدث بدون ذلك، لكن خص الجائي بالذكر، كما في قوله:
|