الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)
والإشارة إلى عروبته للامتنان على العرب، وتذكيرهم بنعمة الله عليهم، ورعايته لهم، وعنايته بهم؛ ومظهرها اختيارهم لهذه الرسالة، واختيار لغتهم لتتضمن هذا القرآن العظيم.ثم بيان لطبيعة الرسالة، ووظيفتها:{لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}..وفي نهاية هذا الشوط الأول يصور له جزاء المحسنين، ويفسر لهم هذه البشرى التي يحملها إليهم القرآن الكريم، بشرطها، وهو الاعتراف بربوبية الله وحده والاستقامة على هذا الاعتقاد ومقتضياته:{إن الذين قالوا ربنا الله}.
.تفسير الآيات (15- 20): {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)}هذا الشوط يسير مع الفطرة في استقامتها وفي انحرافها، وفيما تنتهي إليه حين تستقيم وما تنتهي إليه حين تنحرف. ويبدأ بالوصية بالوالدين. وكثيراً ما ترد هذه الوصية لاحقة للكلام عن العقيدة في الله أو مصاحبة لهذا الحديث. ذلك أن وشيجة الأبوة والبنوة هي أول وشيجة بعد وشيجة الإيمان في القوة والأهمية، وأولاها بالرعاية والتشريف. وفي هذا الاقتران دلالتان: أولاهما هي هذه. والثانية أن آصرة الإيمان هي الأولى وهي المقدمة، ثم تليها آصره الدم في أوثق صورها.وفي هذا الشوط نموذجان من الفطرة: في النموذج الأول تلتقي آصرة الإيمان وآصرة الوالدين في طريقهما المستقيم المهتدي الواصل إلى الله. وفي الثاني تفترق آصرة النسب عن آصرة الإيمان، فلا تلتقيان. والنموذج الأول مصيره الجنة ونصيبه البشرى. والنموذج الثاني مصيره النار ونصيبه استحقاق العذاب. وبهذه المناسبة يعرض صورة العذاب في مشهد من مشاهد القيامة، يصور عاقبة الفسوق والاستكبار.{ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً}..فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائم على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنساناً. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك. وهي وصية صادرة من خالق الإنسان، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضاً. فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها. والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس. فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان.وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الوصية بالإحسان إلى الوالدين. ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة، ولمناسبة حالات معينة. ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير. وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيراً ما تصل إلى حد الموت- فضلاً على الألم- بدون تردد، ودون انتظار عوض، ودون منّ ولا رغبة حتى في الشكران! أما الجيل الناشئ فقلما يتلفت إلى الخلف. قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني. لأنه بدوره مندفع إلى الأمام، يطلب جيلاً ناشئاً منه يضحي له بدوره ويرعاه! وهكذا تمضي الحياة!والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء. والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذاً غير طبيعي في كثير من جوانب حياته- مهما توافرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة- وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة، هو شعور الحب.فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته. ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد. وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا. إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال، يتحاقدون فيما بينهم، على الأم الصناعية المشتركة، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبداً. كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية. وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي. فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال. فتنشأ شخصياتهم مخلخلة، ويحرمون ثبات الشخصية.. والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم.ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة، والتي لا يجزيها أبداً إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين:{حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً}..وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً}.. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه!ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة..إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة. تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائماً في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم. دائمة الامتصاص لمادة الحياة. والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دماً نقياً غنياً لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير. ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير! وهذا كله قليل من كثير!ثم الوضع، وهو عملية شاقة، ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة. ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش، وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت!ثم الرضاع والرعاية. حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية. وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود. لا تمل أبداً ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو.فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد!فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية، مهما يفعل. وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد؟وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أديتُ حقها؟ فأجابه: «لا، ولا بزفرة واحدة».ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم، إلى مرحلة النضج والرشد، ومع استقامة الفطرة، واهتداء القلب:{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين}..وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين. والأربعون في غاية النضج والرشد، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء. وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة. وتتدبر المصير والمآل.ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد آخره يتبدى. وهي تتوجه إلى الله:{رب أوزعني أن أشكرك نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديّ}..دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: {أوزعني}.. لينهض بواجب الشكر؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير.{وأن أعمل صالحاً ترضاه}..وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه.{وأصلح لي في ذريتي}..وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله.وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام:{إني تبت إليك وإني من المسلمين}..ذلك شأن العبد الصالح، صاحب الفطرة السليمة المستقيمة مع ربه. فأما شأن ربه معه، فقد أفصح عنه هذا القرآن:{أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}..فالجزاء بحساب أحسن الأعمال. والسيئات مغفورة متجاوزة عنها. والمآل إلى الجنة مع أصحابها الأصلاء.ذلك وفاء بوعد الصدق الذي وعدوه في الدنيا. ولن يخلف الله وعده.. وهو جزاء الفيض والوفر والإنعام.فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال:{والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي}..فالوالدان مؤمنان. والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: {أف لكما}.. ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: {أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي}.. أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد.. والساعة مقدرة إلى أجلها. والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا. ولم يقل أحد إنه تجزئة. يبعث جيل مضى في عهد جيل يأتي. فليست لعبة وليست عبثاً. إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها!والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول؛ ويهتفان به: {وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق}.. ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان. بينما هو يصر على كفره، ويلج في جحوده: {فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين}..هنا يعاجله الله بمصيره المحتوم:{أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}..والقول الذي حق على هذا وأمثاله هو العقاب الذي ينال الجاحدين المكذبين. وهم كثير. خلت بهم القرون. من الجن والإنس. حسب وعيد الله الصادق الذي لا يخلف ولا يتخلف. {إنهم كانوا خاسرين}.. وأية خسارة أكبر من خسارة الإيمان واليقين في الدنيا. ثم خسارة الرضوان والنعيم في الآخرة. ثم العذاب الذي يحق على الجاحدين المنحرفين؟وبعد بيان العاقبة والجزاء إجمالاً للمهتدين والضالين، يصور دقة الحساب والتقدير لكل فرد من هؤلاء وهؤلاءعلى حدة:{ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون}..فلكل فرد درجته، ولكل فرد عمله، في حدود ذلك الإجمال في جزاء كل فريق.وبعد، فهذان النموذجان عامان في الناس، ولكن مجيئهما في هذا الأسلوب، الذي يكاد يحدد شخصين بذواتهما أوقع وأشد إحياء للمثل كأنه واقع.ولقد وردت روايات أن كلاً منهما يعني إنساناً بعينه. ولكن لم يصح شيء من هذه الروايات. والأولى اعتبارهما واردين مورد المثل والنموذج. يدل على هذا الاعتبار صيغة التعقيب على كل نموذج. فالتعقيب على الأول: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون}.. والتعقيب على الثاني: {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين}.. ثم التعقيب العام: {ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون}.. وكلها توحي بأن المقصود هو النموذج المكرر من هؤلاء وهؤلاء.ثم يقفهم وجهاً لوجه أمام مشهد شاخص لهم في يوم الحساب الذي كانوا يجحدون:{ويوم يعرض الذين كفروا على النار}.
|