الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}.قوله: {مَسْكَنِهِمْ} قرأ حمزةٌ وحفصٌ {مَسْكَنِهم} بفتح الكاف مفردًا، والكسائيُّ كذلك، إلاَّ أنه كسرَ الكافَ، والباقون {مَساكِنِهم} جمعًا. فأمَّا الإِفرادُ فلِعَدَمِ اللَّبْسِ؛ لأن المرادَ الجمعُ، كقولِه:والفتحُ هو القياسُ؛ لأنَّ الفعلَ متى ضُمَّتْ عينُ مضارِعه أو فُتِحَتْ جاء المَفْعَلُ منه زمانًا ومكانًا ومصدرًا بالفتحِ، والكسرُ مَسْموعٌ على غيرِ قياس. وقال أبو الحسن: كسرُ الكافِ لغةٌ فاشيةٌ، وهي لغةُ الناسِ اليومَ، والكسرُ لغةُ الحجازِ. وهي قليلةٌ. وقال الفراء: هي لغةٌ يمانِيَّةٌ فصيحة. و {مَسْكَنِهِمْ} يُحْتمل أَنْ يرادَ به المكانُ، وأَنْ يُرادَ به المصدرُ أي: السُّكْنى. ورجَّحَ بعضُهم الثاني قال: لأنَّ المصدرَ يشملُ الكلَّ فليس فيه وَضْعُ مفردٍ مَوْضِعَ جمع بخلافِ الأول؛ فإنَّ فيه وَضْعَ المفرد مَوْضِعَ الجمعِ كما قَرَّرْتُه، لكنَّ سيبويه يَأْباه إلاَّ ضرورةً كقولِه: أي جلود. وأمَّا الجمعُ فهو الظاهرُ؛ لأنَّ لكلِّ واحدٍ مَسْكنًا. ورُسِمَ في المصاحفِ دونَ ألفٍ بعد الكافِ: فلذلك احتَمَلَ القراءاتِ المذكورةَ.قوله: {جَنَّتان} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: الرفعُ على البدلِ من {آيةٌ} وأبدلَ مثنَّى مِنْ مفرد؛ لأنَّ هذا المفردَ يَصْدُقُ على هذا المثنى. وتقدَّم في قولِه: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} الثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وضَعَّفَ ابنُ عطيةَ الأولَ ولم يُبَيِّنْه. ولا يَظْهَرُ ضَعْفُه بل قوتُه، وكأنه توهَّمَ أنهما مختلفان إفرادًا وتثنية؛ فلذلك ضَعُفَ البدلُ عنده. واللَّهُ أعلمُ. الثالث: وإليه نحا ابن عطية- أَنْ يكونَ {جَنَّتان} مبتدًا، وخبرُه {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}. ورَدَّه الشيخُ: بأنه ابتداء نكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ. واعتذر عنه: بأنَّه قد يُعْتَقَدُ حَذْفُ صفةٍ أي: جنتان لهم، أو جنتان عظيمتان إنْ صَحَّ ما ذهبَ إليه.وقرأ ابنُ أبي عبلة {جَنَّتَيْن} بالياء نصبًا على خبرِ كان، واسمُها {آية}. فإنْ قيل: اسمُ كان كالمبتدأ، ولا مُسَوِّغَ للابتداء به حتى يُجْعَلَ اسم كان. والجوابُ أنه تخصَّصَ بالحالِ المقدَّمَةِ عليه، وهي صفتُه في الأصل. ألا ترى أنه لو تأخَّر {لسبأ} لكان صفةً ل {آيةٌ} في هذه القراءةِ.قوله: {عن يمينٍ} إمَّا صفةٌ ل {جَنَّتان} أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هما عن يمين.قوله: {كُلُوا} على إضمارِ القولِ أي: قال الله أو المَلَكُ.قوله: {بَلْدَةٌ} أي: بَلْدَتُكُمْ بَلْدَةٌ، وربُّكم ربٌّ غفورٌ. وقرأ رُوَيْس بنصب {بَلْدَة} {ورَب} على المدحِ، أو اسكنوا واعبدوا. وجعله أبو البقاء مفعولًا به، والعامِلُ فيه {اشكروا} وفيه نظرٌ؛ إذ يَصيرُ التقدير: اشكروا لربِّكم رَبَّا غفورًا. {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}.قوله: {سَيْلَ العرم} فيه أوجهٌ، أحدها: أنه من باب إضافةِ الموصوفِ لصفتِه في الأصلِ، إذ الأصلُ: السَّيْلُ العَرِمُ. والعَرِمُ: الشديدُ. وأصله مِنَ العَرامَةِ، وهي الشَّراسَةُ والصعوبةُ. وعَرِمَ فلانٌ فهو عارِمٌ وعَرِمٌ. وعُرامُ الجيش منه. الثاني: أنه من بابِ حَذْفِ الموصوفِ وإقامة صفتِه مُقامه. تقديرُه: فأَرْسَلْنا عليهم سَيْلَ المطرِ العَرِم أو الجُرذ العرم أي الشديد الكثير. الثالث: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للبناء الذي يُجْعَلُ سَدًَّا. وأُنْشد: أي البناء القويُّ. الرابع: أنَّ العَرِمَ اسمٌ للوادي الذي كان فيه الماء نفسُه. الخامس: أنه اسمٌ للجُرَذِ وهو الفَأْر. قيل: هو الخُلْدُ. وإنما أُضيفَ إليه لأنه تَسَبَّبَ عنه إذ يُرْوى في التفسيرِ: أنه قَرَضَ السِّكْرَ إلى أن انفتح عليهم فغرِقوا به. وعلى هذه الأقوال الثلاثةِ تكون الإِضافةُ إضافةً صحيحةً مُعَرِّفة نحو: غلام زيد أي: سيل البناء، أو سيل الوادي الفلاني، أو سيلُ الجُرَذِ. وهؤلاء هم الذين ضَرَبَتْ بهم العربُ في المثل للفُرْقةِ فقالوا: تَفَرَّقوا أَيْدِي سبأ وأيادي سبأ.قوله {بجنَّتَيْهم جَنَّتَيْن} قد تقدَّم في البقرة أن المجرورَ بالباء هو الخارج، والمنصوبَ هو الداخلُ؛ ولهذا غَلِط مَنْ قال من الفقهاء: فلو أبدل ضادًا بظاء بَطَلَتْ صلاتُه بل الصواب أَنْ يُقال: ظاء بضادٍ.قوله: {أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ أبو عمرو على إضافة {أُكل} غير المضاف إلى {خَمْط}. والباقون بتنوينه غيرَ مضافٍ وقد تقدم في البقرةِ أنَّ ابنَ عامرٍ وأبا عمرو والكوفيين يضمون كاف {أكل} غير المضاف لضمير المؤنثةِ، وأن نافعًا وابن كثير يُسَكِّنونها بتفصيل هناك تقدَّمَ تحريرُه، فيكونُ القرَّاء هنا على ثلاثِ مراتبَ، الأولى: لأبي عمروٍ {أُكُلِ خَمْط} بضم كاف {أُكُلٍ} مضافًا ل {خَمْطٍ}. الثانية: لنافعٍ وابن كثير تسكينُ كافِه وتنوينِه. الثالثة: للباقين ضَمُّ كافِه وتنوينه. فَمَنْ أضافَ جَعَلَ الأكل بمعنى الجنى والثمر. والخَمْطُ قيل: شجرُ الأَراك. وقيل: كلُّ شجرٍ ذي شَوْكٍ. وقيل: كلُّ نَبْتٍ أَخَذَ طعمًا مِنْ مرارة. وقيل: شجرةٌ لها ثَمَرٌ تشبه الخَشْخاشَ لا يُنْتَفَعُ به.قوله: {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ} معطوفان على {أُكُل} لا على {خَمْط} لأنَّ الخَمْطَ لا أُكُلَ له. وقال مكي: لَمَّا لم يَجُزْ أَنْ يكونَ الخمطُ نعتًا للأكل؛ لأنَّ الخَمْطَ اسمُ شجرٍ بعينه، ولا بدلًا لأنه ليس الأولَ ولا بعضَه، وكان الجنى والثمرُ من الشجر، أُضيف على تقدير مِنْ كقولِك: هذا ثوبُ خَزّ. ومَنْ نَوَّنَ جَعَلَ خَمْطًا وما بعدَه: إمَّا صفةً لأُكُل.قال الزمخشري: أو وُصِفَ الأُكُلَ بالخَمْط، كأنه قيل: ذواتَيْ أُكُلٍ بَشِعٍ. قال الشيخُ: والوصفُ بالأسماء لا يَطَّردُ، وإنْ كان قد جاء منه شيءٌ نحو قولهم: مررْتُ بقاع عَرْفَجٍ كلِّه. الثاني: البدلُ مِنْ {أُكُل} قال أبو البقاء: وجعل خَمْطًا أُكُلًا لمجاوَرَتِه إياه وكونِه سببًا له. إلاَّ أنَّ الفارسيَّ رَدَّ كونَه بدلًا. قال: لأنَّ الخَمْطَ ليس بالأُكُلِ نفسِه. وقد تقدَّمَ جوابُ أبي البقاء. وأجاب بعضُهم عنه- وهو مُنْتَزَعٌ مِنْ كلام الزمخشري- أنه على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه: ذواتَيْ أُكُلٍ أُكُلِ خَمْطٍ. قال: والمحذوفُ هو الأولُ في الحقيقةِ. قلت: وهو حسنٌ في المعنى. الثالث: أنه عطفُ بيانٍ، وجعله أبو عليٍ أحسنَ ما في الباب. قال: كأنَّه بَيَّنَ أنَّ الأُكُلَ هذه الشجرةُ إلاَّ أنَّ عَطْفَ البيانِ لا يُجيزه البصريُّون في النكرات إنما يَخُصُّونه بالمعارفِ.قوله: {قليلٍ} نعتٌ ل {سِدْر}. وقيل: نعتٌ ل {أُكل}. وقال أبو البقاء: ويجوز أَنْ يكونَ نعتًا ل {خَمْطٍ وأَثْلٍ وسِدْرٍ}. وقُرِئ {وأَثْلًا وشَيْئًا} بنصبهما عطفًا على جَنَّتَيْن. والأَثْلُ: شجرُ الطَّرْفاء، أو ما يُشْبِهها. والسِّدرَ سِدْران: سِدْرٌ له ثمرةٌ عَفْصَةٌ لا تُؤْكَلُ ولا يُنْتَفَعُ بورقِه في الاغتسال وهو الضالُّ، وسِدْرٌ له ثمرٌ يُؤْكَلُ وهو النَّبْقُ، ويُغْتَسُل بورقِه. ومراد الآيةِ: الأولُ. {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}.قوله: {وَهَلْ نجازي} قرأ الأخَوان وحفصٌ {نُجازي} بنونِ العظمة وكسرِ الزاي أي: نحن. {إلاَّ الكَفورَ} مفعولٌ به. والباقون بضمِّ الياء وفتح الزاي مبنيًّا للمفعول. {إلاَّ الكفورُ} رَفْعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه. ومسلم بن جندب {يُجْزَى} مبنيًا للمفعول، {إلاَّ الكفورُ} رَفْعٌ على ما تقدَّمَ. وقُرِئ {يَجْزِي} مبنيًا للفاعل وهو اللَّهُ تعالى، {الكفورَ} نصبًا على المفعولِ به. {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}.قوله: {رَبَّنَا} العامَّةُ بالنصبِ على النداء. وابن كثيرٍ وأبو عمروٍ وهشام {بَعِّدْ} بتشديدِ العَيْنِ فعلَ طلبٍ. والباقون {باعِدْ} طلبًا أيضًا من المفاعلة بمعنى الثلاثي. وقرأ ابنُ الحنفية وسفيان بن حسين وابن السَّمَيْفع {بَعُدَ} بضم العين فعلًا ماضيًا. والفاعلُ المَسِيْرُ أي: بَعُدَ المَسِيْرُ. و {بَيْنَ} ظرفٌ. وسعيد بن أبي الحسن كذلك إلاَّ أنَّه ضَمَّ نونَ {بين} جعله فاعلَ {بَعُدَ} فأخرجه عن الظرفية كقراءةِ {تَقَطَّع بينُكُم} رفعًا. فالمعنى على القراءةِ المتضمِّنةِ للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للطلبِ يكونُ المعنى: أنهم أَشِرُوا وبَطِرُوا؛ فلذلك طلبوا بُعْدَ الأسفارِ. وعلى القراءة المتضمِّنة للخبرِ الماضي يكونُ شكوى مِنْ بُعْدِ الأسفار التي طلبوها أيضًا.وقرأ جماعةٌ كثيرةٌ منهم ابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن فائد {ربُّنا} رفعًا على الابتداء، {بَعِّدْ} بتشديد العين فعلًا ماضيًا خبرُه. وأبو رجاء والحسنُ ويعقوب كذلك إلاَّ أنه {باعَدَ} بالألف. والمعنى على هذه القراءة: شكوى بُعْدِ أسفارِهم على قُرْبها ودُنُوِّها تَعَنُّتًا منهم.وقُرِئ {بُوعِدَ} مبنيًا للمفعول. وإذا نصَبْتَ {بينَ} بعد فعلٍ متعدٍّ مِنْ هذه المادةِ في إحدى هذه القراءاتِ سواء كان أمرًا أم ماضيًا فجعله الشيخ منصوبًا على المفعول به لا ظرفًا. قال: ألا ترى إلى قراءةِ مَنْ رفع كيف جَعَلَه اسمًا؟ قلت: إقرارُه على ظرفيَّتِه أَوْلَى، ويكون المفعولُ محذوفًا، تقديره: بَعِّدِ السيرَ بينَ أسفارِنا. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ {بَعُدَ} بضم العين {بينَ} بالنصب، فكما تُضْمِرُ هنا الفاعلَ وهو ضميرُ السَّيْرِ كذلك تُبْقي هنا {بينَ} على بابِها، وتَنْوي السيرَ. وكان هذا أَوْلى؛ لأنَّ حَذْفَ المفعولِ كثيرٌ جدًا لا نِزاع فيه، وإخراجُ الظرفِ غير المتصرِّفِ عن ظرفيتِه فيه نزاعٌ كثيرٌ، وتحقيقُ هذا والاعتذارُ عن رفعِ {بينكم} مذكورٌ في الأنعام.وقرأ العامَّةُ {أَسْفارِنا} جمعًا. وابن يعمر {سَفَرِنا} مفردًا. {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}.قوله: {صَدَّقَ} قرأ الكوفيون {صَدَّق} بتشديد الدال. والباقون بتخفيفها. فأمَّا الأولى ف {ظنَّه} مفعولٌ به. والمعنى: أنَّ ظنَّ إبليس ذهب إلى شيءٍ فوافق، فصدَّق هو ظنَّه على المجاز والاتساعِ. ومثلُه: كذَّبْتُ ظني ونفسي وصَدَّقْتُهما، وصَدَّقاني وكَذَّباني. وهو مجازٌ سائغ. أي: ظَنَّ شيئًا فوقع. وأصلُه: مِنْ قولِه: {ولأُغْوِيَنَّهم} و {لأُضِلَّنَّهم} وغيرِ ذلك.وأمَّا الثانيةُ فانتصب {ظنَّه} على ما تقدَّم من المفعول به كقولهم: أَصَبْتُ ظني، وأَخْطَأْت ظني. أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: يظنُّ ظنَّه، أو على إسقاطِ الخافضِ أي: في ظنه. وزيدُ بن علي والزهريُّ برفعِ {ظَنُّه} ونصب {إبليس} كقول الشاعر: جعل ظنَّه صادقًا فيما ظَنَّه مجازًا واتساعًا. ورُوي عن أبي عمروٍ برفعِهما وهي واضحةٌ. جعل {ظنَّه} بدلَ اشتمال من إبليس.والظاهر أنَّ الضميرَ في {عليهم} عائدٌ على أهل سبأ، و {إلاَّ فريقًا} استثناء من فاعل اتبعوه و {من المؤمنين} صفةُ {فريقًا}. ومِنْ للبيان لا للتبعيضِ لئلا يَفْسُدَ المعنى؛ إذ يلزمُ أَنْ يكونَ بعضُ مَنْ آمن اتَّبع إبليسَ. {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}.قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} استثناء مفرغٌ مِنَ العللِ العامَّةِ، تقديرُه: ما كان له عليهم استيلاء لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لهذا، وهو تمييزُ المُحِقِّ من الشاكِّ.قوله: {منها} متعلقٌ بمحذوفٍ على معنى البيان أي: أعني منها وبسببها. وقيل: مِنْ بمعنى في. وقيل: هو حالٌ من {شك}. وقوله: {مَنْ يؤمِنُ} يجوز في مَنْ وجهان، أحدهما: أنَّها استفهاميةٌ فَتَسُدُّ مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم. كذا ذكره أبو البقاء وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ لنُمَيِّزَ ونُظْهِرَ للناسِ مَنْ يؤمِنُ مِمَّن لا يُؤْمِنُ فعبَّر عن مقابِلِه بقولِه: {مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} لأنَّه مِنْ نتائجه ولوازِمِه. والثاني: أنها موصولةٌ، وهذا هو الظاهرُ على ما تقدَّم تفسيرُه. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}.قوله: {الذين زَعَمْتُمْ} مفعولُه الأولُ محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ، والثاني أيضًا محذوفٌ، قامَتْ صفتُه مَقامَه. أي: زَعَمْتموهم شركاء مِنْ دونِ الله. ولا جائزٌ أَنْ يكونَ {مِنْ دون} هو المفعولَ الثاني؛ إذ لا يَنْعَقِدُ منه مع ما قبلَه كلامٌ. لو قلتَ: هم من دونِ الله أي: مِنْ غيرِ نيةِ موصوفٍ لم يَجُزْ. ولولا قيامُ الوصفِ مَقامَه أيضًا لم يُحْذَفْ؛ لأنَّ حَذْفَه اختصارًا قليلٌ. على أنَّ بعضَهم مَنَعَه. {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}.قوله: {إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} فيه أوجهٌ، أحدُها: أَنَّ اللامَ متعلقةٌ بنفسِ الشفاعة. قال أبو البقاء: كما تقول: شَفَعْتُ له. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ ب {تَنْفَعُ} قاله أبو البقاء. وفيه نظرٌ: وهو أنه يَلْزَمُ أحدُ أمرَيْن: إمَّا زيادةُ اللامِ في المفعولِ في غيرِ مَوْضِعها، وإمَّا حَذْفُ مفعولِ {تنفع} وكلاهما خلافُ الأصلِ. الثالث: أنه استثناء مفرَّغٌ مِنْ مفعولِ الشفاعة المقدرِ أي: لا تنفع الشفاعةُ لأحدٍ إلاَّ لمَنْ أَذِنَ له.ثم المستثنى منه المقدرُ يجوزُ أن يكون هو المشفوعَ له، وهو الظاهرُ، والشافعُ ليس مذكورًا إنما دَلَّ عليه الفَحْوى. والتقدير: لا تنفُع الشفاعةُ لأحدٍ من المشفوع لهم إلاَّ لمَنْ أَذن تعالى للشافعين أَنْ يَشْفعوا فيه. ويجوز أَنْ يكونَ هو الشافِعَ، والمشفوعُ له ليس مذكورًا تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ لشافعٍ أُذِن له أَنْ يَشْفَعَ. وعلى هذا فاللامُ في له لامُ التبليغِ لا لامُ العلةِ. الرابع: أنه استثناء مفرَّغٌ أيضًا، لكنْ من الأحوال العامة. تقديرُه: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له. وقرَّرَه الزمخشري فقال: تقول: الشفاعة لزيدٍ على معنى: أنه الشافعُ كما تقول: الكَرْمُ لزيدٍ، وعلى معنى أنه المشفوعُ له كما تقول: القيامُ لزيدٍ فاحتمل قولُه: {وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أَنْ يكونَ على أحدِ هذين الوجهين أي: لا تنفعُ الشفاعةُ إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له من الشافعين ومطلقةً له، أو لا تنفع الشفاعة إلاَّ كائنةً لمَنْ أَذِن له أي: لشفيعِه، أو هي اللامُ الثانية في قولك: أُذِنَ لزيدٍ لعمروٍ أي: لأجله فكأنه قيل: إلاَّ لمَنْ وقع الإِذنُ للشفيعِ لأجلِه. وهذا وجهٌ لطيفٌ وهو الوجه. انتهى.فقولُه: الكَرْم لزيدٍ يعني: أنَّها ليسَتْ لامَ العلة بل لامُ الاختصاصِ. وقوله: القيامُ لزيد يعني أنها لام العلة كما هي في القيام لزيد. وقوله: أُذن لزيدٍ لعمروٍ يعني: أنَّ الأولى للتبليغ، والثانيةَ لامُ العلَّةِ.وقرأ الأخَوان وأبو عمروٍ {أُذِنَ} مبنيًا للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرورُ. والباقون مبنيًّا للفاعل أي: أَذِنَ اللَّهُ وهو المرادُ في القراءة الأخرى. وقد صَرَّح به في قولِه: {إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله} [النجم: 26] {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38].قوله: {حتى إذا} هذه غايةٌ لابد لَها مِنْ مُغَيَّا. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنه قولُه: {فاتبعوه} [سبأ: 20] على أَنْ يكونَ الضميرُ في عليهم من قولِه: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ} [سبأ: 20] وفي {قلوبِهم} عائدًا على جميع الكفار، ويكون التفزيعُ حالةَ مفارقةِ الحياةِ، أو يُجْعَلُ اتِّباعُهم إياه مُسْتصحِبًا لهم إلى يوم القيامة مجازًا.والجملةُ مِنْ قوله: {قل ادْعُوا} إلى آخرها معترضةٌ بين الغايةِ والمُغَيَّا. ذكره الشيخ. وهو حسنٌ.والثاني: أنه محذوفٌ. قال ابن عطية: كأنه قيل: ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم، بل هم عَبَدَةٌ أو مُسْلمون أي: منقادون. {حتى إذا فُزِّع عن قلوبِهم} انتهى. وجعل الضميرَ في {قلوبهم} عائدًا على الملائكة. وقَرَّر ذلك، وضَعَّفَ قولَ مَنْ جعله عائدًا على الكفار، أو جميعِ العالم وليس هذا مَوْضِعَ تنقيحه.
|