الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى.{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فأخذناهم بالبأساء والضراء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42] أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43] أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ} فلم تسمعوا خطابه {وأبصاركم} فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته {وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ} فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه: {مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام: 46] أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى} أي من حيث أنا {خَزَائِنُ الله} أي مقدوراته {وَلا أَعْلَمُ} أي من حيث أنا أيضًا {الغيب وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنّى مَلَكٌ} أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب {إِنْ أَتَّبِعُ} أي من تلك الحيثية {إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ} من الله تعالى.وله صلى الله عليه وسلم مقام {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].و{إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعمى} عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقييده سبحانه بشيء من المظاهر {والبصير} [الأنعام: 50] بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال: {وَلاَ تَطْرُدِ} أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان {الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال {بالغداة} أي وقت تجلي الجمال {والعشى} أي وقت تجلي العظمة والجلال {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقوله تعالى: {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شيء} عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة.ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات {فَتَطْرُدَهُمْ} عن الجلوس معك {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52] لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم.ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائمًا بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم} فيما يعملون {مِن شيء} إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم {وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مّن شيء} أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه {فَتَطْرُدَهُمْ} عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني {فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} لتشويشك عليهم أوقاتهم، والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ} أي الناس وهم المحجوبون {بِبَعْضِ} وهم العارفون {لّيَقُولواْ} أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش {أَهَؤُلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم} بالهداية والمعرفة {مّن بَيْنِنَا} أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم {أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده {وَإِذَا جَاءكَ الذين يُؤْمِنُونَ بآياتنا} أي بواسطتها {فَقُلْ} لهم أنت أيها الوسيلة: {سلام عَلَيْكُمُ} وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه {سَلاَمٌ قَوْلًا مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} [ياس: 58] وباقي الآية ظاهر.وقال الإمام الرازي: إن قوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءكَ} إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه (وكبريائه) وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له (وما لا نهاية له) فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار.ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات، وهذا (شرح إجمالي) لا نهاية لتفاصيله.ثم إن العبد إذا صار موصوفًا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: {سلام عَلَيْكُمُ} فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة.وقوله سبحانه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} بشارة بحصول (الكرامة) عقيب تلك السلامة.أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانية ومعدن الآفات (والمخافات) وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى.وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا {فَقُلْ سلام عَلَيْكُمْ} لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفًا عن كل ما فات {أنَّهُ مِنَ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ} أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة {ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ} أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور {وَأَصْلَحَ} أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة {فأنه} عز شأنه {غَفُورٌ} يسترها عنه {رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] يرحمه بهبة التميكن ونعمة الاستقامة {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ الآيات} أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين} [الأنعام: 55] وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون.والله تعالى الموفق للصواب. اهـ.
{قد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين} المعنى إن اتبعت أهواءكم ضللت وما اهتديت والجملة من قوله: {وما أنا من المهتدين} مؤكدة لقوله: {قد ضللت} وجاءت تلك فعلية لتدل على التجدد وهذه اسمية لتدل على الثبوت فحصل نفي تجدد الضلال وثبوته وجاءت رأس آية.وقرأ السلمي وابن وثاب وطلحة {ضللت} بكسر فتحة اللام وهي لغة، وفي التحرير قرأ يحيى وابن أبي ليلى هنا في السجدة في أئذا ضللنا بالصاد غير معجمة ويقال صل اللحم أنتن ويروى ضللنا أي دفنا في الضلة وهي الأرض الصلبة رواه أبو العباس عن مجاهد بن الفرات في كتاب الشواذ له. اهـ.
|