الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والمراد بعبده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإيراده عليه الصلاة والسلام بذلك العنوان لتشريفه وازيذان بكونه صلوات الله تعالى وسلامه عليه في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدًا للمرسل ردًا على النصارى، وقيل: المراد بالفرقان جميع الكتب السماوية لأنها كلها فرقت بين الحق والباطل وبعبده الجنس الشامل لجميع من نزلت عليهم، وأيد بقراءة ابن الزبير {على عِبَادِهِ}، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، والمراد بالعباد في قراءة ابن الزبير الرسول عليه الصلاة والسلام وأمته، والإنزال كما يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يضاف إلى أمته كما في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ} [الأنبياء: 10] لأنه واصل إليهم ونزوله لأجلهم فكأنه منزل عليهم وإن كان إنزاله حقيقة عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد بالجمع هو صلى الله عليه وسلم وعبر عنه به تعظيمًا، وضمير يكون عائد على عبده، وقيل على {الفرقان} وإسناد الإنذار إليه مجاز، وقيل على الموصول الذي هو عبارة عنه تعالى، ورجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل والإنذار من صفاته عز وجل كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3] وقيل على التنزيل المفهوم من {نَزَّلَ}، والمتبادر إلى الفهم هو الأول وهو الذي يقتضيه ما بعد، والنذير صفة مشبهة بمعنى منذر.وجوز أن يكون مصدرًا بمعنى إنذار كالنكير بمعنى إنكار وحكم الأخبار بالمصدر شهير، والإنذار إخبار فيه تخويف ويقابله التبشير ولم يتعرض له لما مر آنفًا، والمراد بالعالمين عند جمع من العالمين الإنس والجن ممن عاصره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ويؤيده قراءة ابن الزبير للعالمين للجن والإنس وإرساله صلى الله عليه وسلم إليهم معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره، وكذا الملائكة عليهم السلام كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه ورد على من خالف ذلك، وادعى بعضهم دلالة الآية عليه لأن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته العلى فيشمل الملائكة عليهم السلام.وصيغة جمع العقلاء للتغليب أو جمع بعد تخصيصه بالعقلاء.ومن قال كالبارزي: إنه عليه الصلاة والسلام أرسل حتى إلى الجمادات بعد جعلها مدركة لظاهر خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة لم يخصص، واكتفى بالتغليب وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه عليه الصلاة والسلام ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفًا على سائر المرسلين عليهم السلام.وتقديم الجار والمجرور على متعلقه للتشويق ومراعاة الفواصل وللحصر أيضًا على القول الأول في العالمين، وإبراز تنزيل الفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيهًا على قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وكذا يقال في نظائره من الصلات التي ينكرها الكفرة: وقال بعضهم: لا حاجة لما ذكر إذ يكفي في الصلة أن تكون معلومة للسامع المخاطب بها ولا يلزم أن تكون معلومة لكل سامع، والمخاطب بها هنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام عالم بثبوتها للموصول، وفي شرح التسهيل أنه لا يلزم فيها أن تكون معلومة وإن تعريف الموصول كتعريف أل يكون للعهد والجنس وأنه قد تكون صلته مبهمة للتعظيم كما في قوله:
وما ذكر أولًا من تنزيلها منزلة المعلوم أبلغ لكونه كناية عما ذكر مناسبة للرد على من أنكر النبوة وتوحيد الله تعالى: {الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض}.أي له سبحانه خاصة دون غيره لا استقلالًا ولا اشتراكًا السلطان القاهر والاستيلاء الباهر عليهما المستلزم للقدرة التامة والتصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجادًا وإعادًا وإحياء وإماتة وأمرًا ونهيًا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه، وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام الصلة ومتعلق بها فلا يضر الفصل به بين التابع والمتبوع كما في البحر أو محله الرفع أو النصب على المدح بتقدير هو أو أمدح.واختار الطيبي أن محله الرفع على الإبدال وعلله بقوله لأن من حق الصلة أن تكون معلومة عند المخاطب وتلك الصلة لم تكن معلومة عند المعاندين فأبدل {الذى لَهُ} الخ بيانًا وتفسيرًا وهو بعيد من مثله وسبحان من لا يعاب عليه شيء {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أي لم ينزل أحدًا منزلة الولد، وقيل أي لم يكن له ولد كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح وعزير، والملائكة عليهم السلام ما يقولون فسبحان الله عما يصفون، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة الظرفية وكذا قوله تعالى: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الملك} أي ملك السموات والأرض، وأفرد بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعًا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والرد في نحورهم وتوسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته والاحتراز عن توهم كونه تتمة للأول {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} أي أحدثه إحداثًا جاريًا على سنن التقدير والتسوية حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة {فَقَدَّرَهُ} أي هيأه لما أرد به من الخصائص والأفعال اللائقة به {تَقْدِيرًا} بديعًا لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاد والمعاش واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك فلا تكرار في الآية لما ظهر من أن التقدير الدال عليه الخلق بمعنى التسوية والمعبر عنه بلفظه بمعنى التهيئة وهما غيران والخلق على هذا على حقيقته، ويجوز أن يكون الخلق مجازًا بل منقولًا عرفيًا في معنى الأحداث والإيجاد غير ملاحظ فيه التقدير وإن لم يخل عنه ولهذا صح التجوز ويكون التصريح بالتقدير دلالة على أن كل واحد مقصود بالذات فكأنه قيل وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجد متفاوتًا بل أوجده متناصفًا متناسبًا، وقيل التقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى فكأنه قيل وأوجد كل شيء على سنن التقدير فأدامه إلى الأجل المسمى والقول الأول محتار الزجاج وهو كما في الكشف أظهر والفاء عليه للتعقيب مع الترتيب.وزعم بعضهم أن في الكلام قلبًا وهو على ما فيه لا يدفع لزوم التكرار بدون أحد الأوجه المذكورة كما لا يخفى، وجملة {خُلِقَ} الخ عطف على ما تقدم وفيها رد على الثنوية القائلين بأن خالق الشر غير خالق الخير ولا يضر كونه معلومًا مما تقدم لأنها تفيد فائد جديدة لما فيها من الزيادة، وقيل: هي رد على من يعتقد اعتقاد المعتزلة في أفعال الحيوانات الاختيارية.وفي إرشاد العقل السليم أنها جارية مجرى العليل لما قبلها من الجمل المنتظمة في سلك الصلة فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية يقتضي انتظام كل ما سواه كائنًا ما كان تحت ملكوته القاهر بحيبث لا يشذ من ذلك ومن كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدًا له سبحانه أو شريكًا في ملكه عز وجل، وذكر الطيبي أن قوله تعالى: {لَهُ مَلَكُوتَ السموات والأرض} توطئة وتمهيد لقوله سبحانه: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ في الملك} وأردف بقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} لما أن كونه سبحانه بديع السموات والأرض وفاطرهما ومالكهما مناف لاتخاذ الولد والشريك قال تعالى: {بَدِيعُ السموات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] الآية، وقد يقال: إن هذه الجملة تصريح بما علم قبل ليكون التشنيع على المشركين.{واتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ** ـض القوم يخلق ثم لا يفري والمتبادر منه إيجاد الشيء مقدرًا بمقدار كما هو المراد من سابقه، وتفيره بذلك أيضًا كما فعل الزمخشري بعيد كذا قيل: وتعقب بأنه يجوز أن يراد منه هذا المتبادر والأصنام بذواتها وصورها وأشكالها مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق لأن أفعال العباد وما يترتب عليها وينشأ منها من الآثار مخلوقة له عز وجل عندهم كما حقق بل لو قيل بتعين هذه الإرادة على ذلك الوجه لم يبعد، وقوله تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} لبيان حالهم بعد خلقهم ووجودهم، والمراد لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم، ولما كان دفع الضر أهم أفيد أو لأعجزهم عنه، وقيل: {لاِنفُسِهِمْ} ليدل على غاية عجزهم لأن من لا يقدر على ذلك في حق نفسه فلأن لا يقدر عليه في حق غيره من باب أولى.ومن خص الأحكام في الأصنام قال: إن هذا لبيان ما لم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان، وقد يقال: التصرف في الضر والنفع بالدفع والجلب على الإطلاق ليس على الحقيقة إلا لله عز وجل كما ينبىء عنه قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله} [الأعراف: 188] وقوله تعالى: {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حياة وَلاَ نُشُورًا} أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء وإحياء الموتى في الدنيا وبعثهم في الأخرى للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرًا على جميع ذلك، وتقديم الموت لمناسبة الضر المقدم. اهـ. .قال القاسمي: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}.يحمد تعالى نفسه الكريمة ويثني عليها، لما أنزله من الفرقان، كما قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الكهف: 1- 2].قال الزمخشري: البركة: كثرة الخير وزيادته. ومنها: {تَبَارَكَ اللَّهُ}. وفيه معنيان: تَزَايَدَ خيره وتكاثر أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه، في صفاته وأفعاله. و: {الْفُرْقَانَ} مصدر فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل. أو لأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقًا مفصلًا بعضه عن بعض في الإنزال.ألا ترى إلى قوله: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، انتهى.قال الناصر: والأظهر هاهنا هو المعنى الثاني. لأنه في أثناء السورة بعد آيات: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} (32)، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ} أي: أنزلناه مفرقًا كذلك: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} فيكون وصفه بالفرقان في أول السورة- والله أعلم-. كالمقدمة والتوطئة لما يأتي بعد. انتهى.قال أبو السعود: وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان، لتشريفه والإيذان بكونه في أقصى مراتب العبودية، والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدًا للمرسل؛ ردًّا على النصارى، والكناية في ليكون للعبد أو للفرقان. والنذير صفة بمعنى منذر، أو مصدر بمعنى الإنذار، كالنكر مبالغة.{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} أي: أحدثه إحداثًا مراعي فيه التقدير والتسوية لما أريد منه. كخلق الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المفيدة. وكذلك كل حيوان وجماد خلق على الصورة المقدرة. بأمثلة الحكمة والتدبير لأمر ما، ومصلحته مطابقًا لما قدر له، غير متجاف عنه.ولما تضمن هذا إثبات التوحيد والنبوة، تأثره بالبرهنة عليهما، وتضليل المخالفين فيهما، بقوله سبحانه.{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} أي: لا يملكون دفع ضر ولا جلب نفع ولا إماتة أحد وإحياءه أوّلًا وبعثه ثانيًا. ومن كان كذلك فبمعزل عن الألوهية، لعرائه عن لوازمها واتصافه بما ينافيها. وفيه تنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرًا على البعث والجزاء. أفاده القاضي.قال الشهاب: قدم الموت لمناسبته للضر المتقدم وفسر الموت والحياة بالإماتة والإحياء والإنشار، إما بيانًا لحاصل المعنى، لأن ملك الموت له القدرة على الإماتة، أو إشارة إلى أنه بمعنى الأفعال. كما في قوله: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17]. اهـ.
|