فصل: تفسير الآية رقم (80):

صباحاً 3 :50
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
3
الأربعاء
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (72):

{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ} أي فإن أعرضتم عما جئتكم به فليس ذلك لاني سألتكم أجرا فيثقل عليكم مكافاتي. {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} في تبليغ رسالته. {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي الموحدين لله تعالى. فتح أهل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص ياء {أَجْرِيَ} حيث وقع، وأسكن الباقون.

.تفسير الآية رقم (73):

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ} يعني نوحا. {فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ} أي من المؤمنين. {فِي الْفُلْكِ} أي السفينة، وسيأتي ذكرها. {وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ} أي سكان الأرض وخلفا ممن غرق. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} يعني آخر أمر الذين أنذرهم الرسل فلم يؤمنوا.

.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد نوح. {رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ} كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وغير هم. {فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي بالمعجزات. {فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ}التقدير: بما كذب به قوم نوح من قبل.
وقيل: {بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل يوم الذر، فإنه كان فيهم من كذب بقلبه وإن قال الجميع: بلى. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في هذا أنه لقوم بأعيانهم، مثل: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] {كَذلِكَ نَطْبَعُ} أي نختم. {عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} أي المجاوزين الحد في الكفر والتكذيب فلا يؤمنوا. وهذا يرد على القدرية قولهم كما تقدم.

.تفسير الآية رقم (75):

{ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)}
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل والأمم. {مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ} أي أشراف قومه. {بِآياتِنا} يريد الآيات التسع، وقد تقدم ذكرها. {فَاسْتَكْبَرُوا} أي عن الحق. {وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ} أي مشركين.

.تفسير الآيات (76- 77):

{فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا} يريد فرعون وقومه {قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} حملوا المعجزات على السحر. قال لهم موسى: {أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا} قيل: في الكلام حذف، المعنى: أتقولون للحق هذا سحر. ف {أَتَقُولُونَ} إنكار وقولهم محذوف أي هذا سحر، ثم استأنف إنكارا آخر من قبله فقال: أسحر هذا! فحذف قولهم الأول اكتفاء بالثاني من قولهم، منكرا على فرعون وملئه.
وقال الأخفش: هو من قولهم، ودخلت الالف حكاية لقولهم، لأنهم قالوا أسحر هذا. فقيل لهم: أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا، وروي عن الحسن. {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} أي لا يفلح من أتى به.

.تفسير الآية رقم (78):

{قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)}
قوله تعالى: {قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا} أي تصرفنا وتلوينا، يقال: لفته يلفته لفتا إذا لواه وصرفه. قال الشاعر:
تلفت نحو الحي حتى رأيتني ** وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا

ومن هذا التفت إنما هو عدل عن الجهة التي بين يديه. {عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} يريد من عبادة الأصنام. {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ} أي العظمة والملك والسلطان. {فِي الْأَرْضِ} يريد أرض مصر. ويقال للملك: الكبرياء لأنه أعظم ما يطلب في الدنيا. {وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ} وقرأ ابن مسعود والحسن وغيرهما {ويكون} بالياء لأنه تأنيث غير حقيقي وقد فصل بينهما. وحكى سيبويه: حضر القاضي اليوم امرأتان.

.تفسير الآية رقم (79):

{وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79)}
إنما قاله لما رأى العصا واليد البيضاء واعتقد أنهما سحر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش {سحار} وقد تقدم في الأعراف القول فيهما.

.تفسير الآية رقم (80):

{فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)}
أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم. وقد تقدم في الأعراف القول في هذا مستوفى.

.تفسير الآية رقم (81):

{فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء، والخبر {جِئْتُمْ بِهِ} والتقدير: أي شيء جئتم به، على التوبيخ والتصغير لما جاءوا به من السحر. وقراءة أبي عمرو {السحر} على الاستفهام على إضمار مبتدأ والتقدير أهو السحر. ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف، التقدير: السحر جئتم به. ولا تكون {ما} على قراءة من استفهم بمعنى الذي، إذ لا خبر لها. وقرأ الباقون {السِّحْرُ} على الخبر، ودليل هذه القراءة قراءة ابن مسعود: {ما جئتم به سحر}. وقراءة أبي: {ما أتيتم به سحر}، ف {ما} بمعنى الذي، و{جِئْتُمْ بِهِ} الصلة، وموضع {ما} رفع بالابتداء، والسحر خبر الابتداء. ولا تكون {ما} إذا جعلتها بمعنى الذي نصبا لان الصلة لا تعمل في الموصول. وأجاز الفراء نصب السحر بجئتم، وتكون ما للشرط، وجئتم في موضع جزم بما والفاء محذوفة، التقدير: فإن الله سيبطله. ويجوز أن ينصب السحر على المصدر، أي ما جئتم به سحرا، ثم دخلت الالف واللام زائدتين، فلا يحتاج على هذا التقدير إلى حذف الفاء. واختار هذا القول النحاس، وقال: حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر، كما قال:
من يفعل الحسنات الله يشكرها

بل ربما قال بعضهم: إنه لا يجوز البتة. وسمعت علي بن سليمان يقول: حدثني محمد بن يزيد قال حدثني المازني قال سمعت الأصمعي يقول: غير النحويون هذا البيت، وإنما الرواية:
من يفعل الخير فالرحمن يشكره

وسمعت علي بن سليمان يقول: حذف الفاء في المجازاة جائز. قال: والدليل على ذلك {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}. {وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} قراءتان مشهورتان معروفتان. {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} يعني السحر. قال ابن عباس: من أخذ مضجعه من الليل ثم تلا هذه الآية. {ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} لم يضره كيد ساحر. ولا تكتب على مسحور إلا دفع الله عنه السحر.

.تفسير الآية رقم (82):

{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ} أي يبينه ويوضحه. {بِكَلِماتِهِ} أي بكلامه وحججه وبراهينه.
وقيل: بعداته بالنصر. {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} من آل فرعون.

.تفسير الآية رقم (83):

{فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)}
قوله تعالى: {فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} الهاء عائدة على موسى. قال مجاهد: أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا، وهذا اختيار الطبري. والذرية أعقاب الإنسان وقد تكثر.
وقيل: أراد بالذرية مؤمني بني إسرائيل. قال ابن عباس: كانوا ستمائة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصر في اثنين وسبعين إنسانا فتوالدوا بمصر حتى بلغوا ستمائة ألف.
وقال ابن عباس أيضا: {مِنْ قَوْمِهِ} يعني من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه.
وقيل: هم أقوام آباؤهم من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية كما يسمى أولاد الفرس الذين توالدوا باليمن وبلاد العرب الأبناء، لان أمهاتهم من غير جنس آبائهم، قاله الفراء. وعلى هذا فالكناية في {قَوْمِهِ} ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الأمهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط. قوله تعالى: {عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ} لأنه كان مسلطا عليهم عاتبا. {وَمَلَائِهِمْ} ولم يقل وملئه، وعنه ستة أجوبة: أحدها- أن فرعون لما كان جبارا أخبر عنه بفعل الجميع.
الثاني- أن فرعون لما ذكر علم أن معه غيره، فعاد الضمير عليه وعليهم، وهذا أحد قولي الفراء.
الثالث: أن تكون الجماعة سميت بفرعون مثل ثمود.
الرابع: أن يكون التقدير: على خوف من آل فرعون، فيكون من باب حذف المضاف مثل: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]
وهو القول الثاني للفراء. وهذا الجواب على مذهب سيبويه والخليل خطأ، لا يجوز عندهما قامت هند، وأنت تريد غلامها.
الخامس: مذهب الأخفش سعيد أن يكون الضمير يعود على الذرية، أي ملا الذرية، وهو اختيار الطبري.
السادس: أن يكون الضمير يعود على قومه. قال النحاس: وهذا الجواب كأنه أبلغها. {أَنْ يَفْتِنَهُمْ} وحد {يَفتِنَهُمْ} على الاخبار عن فرعون، أي يصرفهم عن دينهم بالعقوبات، وهو في موضع خفض على أنه بدل اشتمال. ويجوز أن يكون في موضع نصب بـ {خَوْفٍ}. ولم ينصرف فرعون لأنه اسم أعجمي وهو معرفة. {وإن فرعون لعال في الأرض} أي عات متكبر {وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} أي المجاوزين الحد في الكفر، لأنه كان عبد ادعى الربوبية.

.تفسير الآيات (84- 85):

{وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)}
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ} أي صدقتم. {بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} أي اعتمدوا. {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} كرر الشرط تأكيدا، وبين أن كمال الايمان بتفويض الامر إلى الله. {فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} أي أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره. {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنا بأن تعذبنا على أيديهم.
وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلط عليهم، فيفتنوا.
وقال أبو مجلز وأبو الضحا: يعني لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانا.

.تفسير الآية رقم (86):

{وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)}
قوله تعالى: {وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ} أي خلصنا. {مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} أي من فرعون وقومه لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة.

.تفسير الآية رقم (87):

{وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)}
قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا} أي اتخذا. {لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً} يقال: بوأت زيدا مكانا وبوأت لزيد مكانا. والمبوأ المنزل الملزوم، ومنه بوأه الله منزلا، أي ألزمه إياه وأسكنه، ومنه الحديث: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» قال الراجز:
نحن بنو عدنان ليس شك ** تبوأ المجد بنا والملك

ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية، في قول مجاهد.
وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر.
الثانية: قوله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها ومنعوا من الصلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا لبني إسرائيل بيوتا بمصر، أي مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة. هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وأبي مالك وابن عباس وغيرهم. وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. والقول الأول أصح، أي اجعلوا مساجدكم إلى القبلة، قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم، قاله ابن بحر. وقيل الكعبة. عن ابن عباس قال: وكانت الكعبة قبلة موسى ومن معه، وهذا يدل على أن القبلة في الصلاة كانت شرعا لموسى عليه السلام، ولم تخل الصلاة عن شرط الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة، فإن ذلك أبلغ في التكليف وأوفر للعبادة.
وقيل: المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والاقدام على الصلاة، والدعاء إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} الآية. وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ما داموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم. قال ابن العربي: والأول أظهر القولين، لان الثاني دعوى. قلت: قوله: {دعوى} صحيح، فإن في الصحيح قوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» وهذا مما خص به دون الأنبياء، فنحن بحمد الله نصلي في المساجد والبيوت، وحيث أدركتنا الصلاة، إلا أن النافلة في المنازل أفضل منها في المساجد، حتى الركوع قبل الجمعة وبعدها. وقبل الصلوات المفروضات وبعدها، إذ النوافل يحصل فيها الرياء، والفرائض لا يحصل فيها ذلك، وكلما خلص العمل من الرياء كان أوزن وأزلف عند الله سبحانه وتعالى. روى مسلم عن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تطوعه قالت: «كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلى بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين..»الحديث. وعن ابن عمر قال: صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الظهر سجدتين وبعدها سجدتين وبعد المغرب سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة فصليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته.
وروى أبو داود عن كعب بن عجرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى مسجد بني الأشهل فصلى فيه المغرب، فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها فقال: «هذه صلاة البيوت».
الثالثة: واختلف العلماء من هذا الباب في قيام رمضان، هل إيقاعه في البيت أفضل أو في المسجد؟ فذهب مالك إلى أنه في البيت أفضل لمن قوي عليه، وبه قال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي. وذهب ابن عبد الحكم وأحمد وبعض أصحاب الشافعي إلى أن حضورها في الجماعة أفضل.
وقال الليث: لو قام الناس في بيوتهم ولم يقم أحد في المسجد لا ينبغي أن يخرجوا إليه. والحجة لمالك ومن قال بقوله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث زيد بن ثابت: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» خرجه البخاري. احتج المخالف بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد صلاها في الجماعة في المسجد، ثم أخبر بالمانع الذي منع منه على الدوام على ذلك، وهو خشية أن تفرض عليهم فلذلك قال لهم: «فعليكم بالصلاة في بيوتكم». ثم إن الصحابة كانوا يصلونها في المسجد أوزاعا متفرقين، إلى أن جمعهم عمر على قارئ واحد فاستقر الامر على ذلك وثبت سنة.
الرابعة: وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجماعة والجمعة. والعذر الذي يبيح له ذلك كالمرض الحابس، أو خوف زيادته، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه، وقد فعل ذلك ابن عمر.
الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} قيل: الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقيل لموسى عليه السلام، وهو أظهر، أي بشر بني إسرائيل بأن الله سيظهرهم على عدوهم.